القيم والمفاهيم في الرؤية القرآنية
تحكم الرؤية القرآنية للتاريخ والأُمم والحضارات فيه إعتبارات قيمّية وأخلاقية.
تحكم الرؤية القرآنية للتاريخ والأُمم والحضارات فيه إعتبارات قيمّية وأخلاقية.
وقد ذكر المستشرق الياباني أكيهيتو إيزوتسو أن تصّور الله سبحانه في ديانات التوحيد الإبراهيمية وفي الإسلام على الخصوص هو تصور أخلاقي، ومن المعروف أن هناك فرقاً بين القيم والأخلاق، فالقيم هي الجانب النظري والعقدي، والأخلاق هي الأمور التي تبدو في السلوك الإنساني، ولأن الإلزامات الأخلاقية هي إلزامات دينية في الأصل، فهي أدنى إلى أن تكون قيماً.
إستناداً إلى منهج رؤية العالم وإستقراء القرآن الكريم فيما يتعلق بالقيم والمبادئ التي تحكم العلائق بالأمم والحضارات استظهرتُ أن المصطلحات الأخلاقية، تتركز في ست مصطلحات هي: المساواة، الكرامة، الرحمة، العدالة، التعارُف والخير العام.
فالمساواة تستند إلى حقيقة "النفس الواحدة" التي خلقها الله سبحانه وتعالى والتي تعني المساواة بين الناس من سائر الوجوه، ترتباً على أنها تعني أنهم جميعاً مخلوقات لله. وهذا يقتضي من جانب المؤمن نظراً وعملاً الإبتعاد عن التمييز والإبتعاد عن الكبرياء، ومن ثم إعتبار حصول الأمرين كبائر فظيعة، قد توصل إلى الكفر والفساد والإفساد إن صارت قيماً أو مبادئ في النظر، وليس مجرد سلوكات مخطئة.
وتتصل قيمة الكرامة بقيمة المساواة بشكل وثيق، ذلك أن الكرامة كما يعرضها القرآن هي قيمة وجودية تتعلق بفطرة الإنسان واختصاص الله له بالعقل والإستخلاف في العالم، وتسخير إمكانيات هذا العالم له. وإقداره على الولاية فيه. ويريد بعض المفكرين المسلمين إلحاق ذلك بمفهوم أو واجب التكليف الإلهي للإنسان. والذي أراه أن الله سبحانه جعل ذلك في قسم منه فطرة، وفي القسم الآخر خياراً، ولو فهمنا ذلك كما نفهم التكليف لأخرجنا الإنسان الذي لا يُشارك بطريقة إيجابية في إعمار الكون من الإيمان، وهذا غير وارد في السياق الذي نقصده.
والذي أريد إضافته هنا أن القرآن الكريم يتحدث في بعض آيات الكرامة عن الحرمة والحدود، فللإنسان حرمة تقتضيها إنسانيته التي ميزته عن سائر مخلوقات الله، وهناك من العلماء من يفهم هذه الحُرمة بإعتبارها تعني ما نعنيه بالحرية اليوم. وقد قام الطاهر بن عاشور في كتابه "مقاصد الشريعة" بالفعل بإضافة الحرية إلى منظومة مصالح الإنسان الضرورية الخمس والموروثة من المنظومة الفقهية الإسلامية القديمة وهي: حق النفس وحق الدين وحق العقل وحق النسل وحق المِلك. وعلى أي حال فإن قيمة الكرامة تتصل من جهة بالمساواة، وتتصل من جهة أخرى بموقع الإنسان في الكون.
أما القيمة الثالثة فهي قيمة الرحمة، وفي القرآن الكريم أن الله سبحانه كتب على نفسه الرحمة، وجعلها القيمة العليا في تعامل البشر بعضهم مع بعض، وهذا يعني ان الرحمة والنِعمة من جانب الله تُجاه الإنسان تنعكسان علاقات مودة ورحمة وسكينة في التعامل بين البشر، أو ينبغي أن يكون الأمر كذلك، بل إن القرآن يعدّ النبي صلى الله عليه وسلم والإسلام رحمة للناس ينبغي أن تتجلى في حياتهم جميعاً: "وما أرسلناك إلآ رحمة للعالمين" الأنبياء 107.
وتتصل بقيمة الرحمة قيمة التعارُف: " يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفُوا" الحجرات 13، وإذا كان المفسرون المسلمون قديماً، والمفكرون حديثاً ما ألحقوا التعارُف بالقيم الأُخرى لإعتقادهم أنها نصيحة أو ندبٌ لظهورها مرة واحدة، فإن القراءة الأعمق للقرآن الكريم تصل التعارُف بالمعروف، وهو مفهوم يرد في القرآن مئات المرات، والرحمة من جانب الإنسان تُجاه أخيه الإنسان قد تُفهم بطريقة فردية، أما التعارُف والمعروف فلا يمكن فهمها إلآ بطريقة شاملة، أي في العلاقات بين البشر على إختلاف اديانهم وثقافاتهم وأخلاقهم.
فالآيات القرآنية تفترض قواسم مشتركة أساسية تتمثل في المساواة والكرامة والمعروف أو التعارُف، وهي القيم والمعاني التي ينبغي أن تسود في العلاقات بين الأمم والحضارات، ولو حدث ذلك لما انتشر الكفر والفساد بين الأُمم وبداخل الأُمم ذاتها.
أما قيمة العدالة فهي ظاهرة الحضور في الخطاب القرآني وهي تعني الإستقامة في النظر والعمل، والإستقامة والتوازن في العلاقات بين الناس. والقرآن يقرر أن الله سبحانه لا يريد ظلماً للعباد، بيد أن قيمة العدل هي في الأعم الأغلب في العلاقات بين الأفراد، وفي العلاقات بين الأمم، وهي ضرورية حينما يتعلق الأمر بالكرامة والحقوق، وتُفهمُ في سياق المساواة والرحمة، والتعارُف عندما يتعلق الأمر بالأفراد أو بالعلاقات بين الأمم. وخاتمة منظومة القيم القرآنية هي قيمة الخير العام، ومُفرد الخير هو الأكثر وروداً بالقرآن بعد الرحمة والرحمن والرحيم، وهو يعني الأحسن والأجمل في التفكير والفعل والتصرُّف، والملحوظ أن القرآن يجمع خير على خيرات عندما يتعلق الأمر بالعلاقات مع الأديان والأمم الأخرى: "فأستبقوا الخيرات" البقرة 148، ومن الواضح أن هذه القيمة الكُبرى تتعالقُ وتتشابك مع بقية المنظومة مثل الرحمة والتعارُف والعدالة. إن الخطاب القرآني يعد المنظومة القيمية هذه مسددةً إن سادت للنظرة إلى العلاقات بين الأمم والحضارات، وأنها تحتوي على الضمانات التي تحول بين الفساد والإفساد لطبيعة الإنسان وفطرته، ولعلاقات الناس بعضهم ببعض.
المرجع: التفاهم: رضوان السيد
No comments:
Post a Comment