Friday, October 7, 2011

أم ميشيل

ليلة الأمس وبينما كنت أستعد لمغادرة المكتب والتوجه إلى المنزل، سمعتُ طرقاتٍ خفيفة على بابه المُغلق، فتحت الباب وإذ بها جارتنا أم ميشيل، القاطِنة في عمارة قريبة من منزلي، تبتسمُ بخجلٍ وتطلبُ مني البقاء قليلاً من الوقت معها، هي تريد مشورتي بأمرٍ تَراهُ مُلِحّاً.
رحّبتُ بها كثيراً خاصةً أنني لم أرها مُنذ الحادثة التي ألمّت بها مُنذ بِضع سنين.
كانت أم ميشيل فيما سبقَ تأتي لتستشيرني في بعضِ أمورها، وأمور سكان العمارة الذين يقطنون لديها، حيثُ أنها ورثت عن زوجها المتوفى عنها عمارة سكنية وبعض المحلات التجارية تعتاشُ وبنيها من مدخولِ الإيجار.
أم ميشيل هذه لديها ولدين وبنت يعيشون ويعملون في المهجر، كمعظم شباب وفتيات لبنان، هي تُقيم بمُفردها مع خادمة سيرلنكية.
يوم الحادثة جاءتني هي وخادمتها، تطلبُ مني مساعدتها في أمرِ خطاب لم تفهم كلماته، أرسله لها ولدها الأصغر كميل وهو أي الخطاب كُتب باللغة الإنجليزية، وبما أنني أُحسِنُ التحدث والقراءة باللغة الإنجليزية وهي لا تعرفُها فقد أخرجت من جزدانها الخطاب المكون من ورقةٍ واحدة قائلة: هي من ابني كميل الذي يعيشُ في شيكاغو، أميركا يعني، فهل من الممكن أن تُترجمه لي؟، واضافة قائلة: أنا لا أعلم صراحةً لماذا كتبه بالإنجليزية مع علمه أنني لا أعرفها، وأخبرتني بأنها حاولت الإتصال به اليوم لمراتٍ عديدة سواءاً على هاتف منزله أو جهازه النقال لكنها لم تفلح بإيجاده، وتَساءلت إن كُنتُ لا أمانع في ترجمة هذا الخطاب لها، أخذته من يدها وبدأتُ بقراءة السطر الأول  "أمي الحبيبة أرجو أن تعلمي بأنني أحبك كثيراً من كل قلبي، وبأنني إشتقت لرؤياك، ماما أرجوا منكِ إخبار إخوتي بأنني أحبهم وأبنائهم كثيراً"، وكنتُ قد بدأت بقراءة السطر الذي يليه إستعداداً لترجمته لتقاطعني باللهجة اللبنانية قائلة:"يقبرني قديش بيحبني كان يتصل فيِّ كل يوم أول ما راح على الغربة، إيه يا استاذ سليمان قديش صعبة الغربة، كَمّل يا إبني"، في السطر الثاني كان يطلب من أمه الدخول إلى بريده الألكتروني حيث أعدّ رسالة خاصة بها، وأضاف سطراً لعنوان بريده الإلكتروني مع كلمة السر الخاصة به، إستغربتُ كثيراً مما كتبه وللطريقة التي اتبعها مع والدته، وتساءلتُ بيني وبين نفسي عن الأمر ثم سألتها إن كان عيد ميلادها يصادف مروره في هذه الأيام؟ فنفت مُبتسمة من تساؤلي، لا أعلم لماذا توجست شراً من أمر رسالته فطلبتُ منها إعطائي رقم هاتفه في أميركا للتأكد من الأمر، كان هاتف منزله يدق لكن لا أحد يجيب، أما جهازه النقال فكان على وضعية المجيب الصوتي، الأمر يدعو للحيرة بالفعل، لا أعلم لماذا خطر لي الدخول إلى بريده دون أن أعلمها بالأمر، وجدت الرسالة التي تكلم عنها، وهالني ما قرأت، هي رسالة انتحار موجهة لأمه، كتبت منذ سبعة أيام، يُعلمها بأنه إختار أن يكتب رسائله بالإنجليزية كي تضطر للإستعانة بأحد ما لأنه لا يريد لها التواجد وحيدة عندما تتلقى خبر إنتحاره، يطلب منها مسامحته، يرجوها أن تغفرَ له، هو مشتاق لرؤيتها، يحبها كثيراً لكنه شقي تعس، أغلقتُ الرسالة وأعدتُها لحالتها الأولى، وتوسمتُ بأنها جاهلة في أمور الكمبيوتر، سألتُ خادمتها إعداد القهوة فنظرت لمخدومتها فأومأت لها إم ميشيل بالموافقة، من غيرِ المعقول أن أصدُمَ هذه الأُمّ الستينيّة بهذا الإعلان المخبأ لها في إيميل هذا الإبن الطائش.
أنا لا أعرف كميل هذا ولم أره في حياتي لكن هناك الكثير من الأمور التي من الممكن أن يرتكبها الأبناء لإغاظة آبائهم وأمهاتهم، هل يتصرف هكذا لأنه يريدُ إبتزاز بعض المال أو إغاظتها لسبب ما أجهله، هل هو صادق فيما كتبه؟ ربما متضايق ومتشاكس مع إخوته وليسوا على وفاق، ربما يريد كسبَ عطفها وخوفها عليه، الكثير من الأفكارِ إختلطت بذهني وأصبحتُ عاجزاً عن التفكير السليم ... لم أعلم ما التصرف الصحيح وما الذي يتوجب عليّ قوله لذا قررت أن أكسب المزيد من الوقت، نعم الوقت كفيل بجعلي قادراً على التصرف والتفكير السليم .. و.. وربما العمل ولكن العمل بماذا؟ لا أعلم؟ المهم أن أكسب الوقت.
طيب يا أم ميشيل لندع البنت (الخادمة) تتكلم مع أهلها قليلاً بينما نرتشف القهوة، وهنا قالت متسائلة: هل أستطيع مكالمة ميشيل؟ إنه في اليونان، بالطبع أجبتها، أعطني رقم هاتفه لأتصل به، وبالفعل ذهبتَ الخادمة لإعدادِ القهوة فيما كانتَ أمُ ميشيل تكلمُ ابنها الموجود في أثينا، أعتقد أنها أخبرته الكثير عن أمورها، كانت شفتاها تبتسمان تارة وبأحيان كثيرة تثرثران بما لم أسمع فالصمت ألقى مراسيه في أذني ولبرهة ضجّ رأسي بالطنين، كان أفضل حل هو التحدث مع ابنها ميشيل بعد أن تذهب والدته، سأطلعه على الأمر فأنا لا أستطيع إخبار والدته بالموضوع، لا أعلم ماذا سيحصل لهذه الأم فيما لو أطلعتها على مضمون رسالة ابنها الإلكترونية ولكن هل حقاً سيفعل ما كتبه؟ هل يجرؤ على الإنتحار؟ هل من يريد الإنتحار سيرسل لأمه رسالة يعلمها بإنتحاره ويأسف لأنه قرر هذا الأمر؟ المشكلة أنني لم أقرأ السبب الذي من أجله عزم على الإنتحار، هو لم يذكر سبباً لهذا لكنه أعلن في رسالته أنه يئس من الحياة، تُرى ما الذي جعله يائساً تعساً ؟ هل أحبّ فتاة رفضته، خانته ؟ أم يقاسى من آفة المخدرات أم أنه شاذ أم .... لا لم أعد أحتمل التفكير بالأمر، ما الذي وضعني بهذه الدوامة ألا يكفي ما بي من هموم، إنتهينا من شرب القهوة وكانت الخادمة قد أنهت مكالمة ذويها أيضاً، وتسآءلت ام ميشيل حينها عن أمر الرسالة في الكمبيوتر ومتى أستطيع طلب الإيميل ومتى يأتي وتبين لي من كلماتها أنها لا تعلم شيئ عن أمور التكنولوجيا لذا تركتها تسأل وانا ألوذ بالصمت حتى أستمد منها ما تعرفه عن هذا الأمر وبدا لي أنها جاهلة كلياً بهذه الأمور وهذا ما شجعني على القول لها "في الغد أو بعد غد من الممكن أن تكون الرسالة قد وصلت لأنني حاولت الدخول منذ قليل ولم أجد شيئاً " فقالت حسناً ماذا سنفعل، طلبتُ منها إعطائي رقم هاتفها لأبلغها بوصول الرسالة ثم خرجت من المكتب موقنة بأنني سأتصل بها بعدما أكّدت على هذا الأمر مراراً، ولم تكد تخطو أم ميشيل خارج المكتب حتى سارعتُ للإتصال بإبنها ميشيل في أثينا، عرّفته بنفسي ودخلتُ في الموضوعِ مباشرة، أخبرتهُ بما جرى وبأنني لا أستطيع نقل محتويات الرسالة لأمه وبأنني لا أستطيع تحمل مسؤولية ما يمكن أن يحدث، فاستغرب الأمر في البداية لكنه لم يستبعده إذ أن أخاه على ما يبدو كان يشعر دائماً بالكآبة، لكنه أخبرني أنه سيتأكد من الأمر بطريقته الخاصة، وطلب مني إعطاؤه عنوان الإيميل وكلمة السر الخاصة بأخيه ورقم هاتفي النقال ليعلمني بأي مستجدات.
في نفس اليوم وبعد صلاة العصر رنّ هاتفي النقال، كان الإتصال من اليونان، أخبرني ميشيل منتحباً بأن رجال الأمن عثروا على أخيه وقد فارق الحياة منذ بضعة أيام وأنه في طريقه من أثينا إلى لبنان على طائرة المساء، أوصاني أن لا أنقل لوالدته أي شيء عن هذا الموضوع.

جلست أم ميشيل على الكرسيّ جانبَ المكتب وكانت متوشحة بالسوادِ كعادة أهل لبنان من النصارى الذين يعلنون عن فقدان أحبائهم، وكان قد مضى على الحادثة تلك 6 سنوات لم ألتقي بأم ميشيل مرة واحدة، تساءلت عن عملي وعمّا رزقني الله من الأبناء، هي تَعلمُ أنني قد فقدتُ ابنتي قبل إنتحار ابنها ببضعة أشهر في حادثٍ مأساوي.

وقالت: هل تعلم يا أستاذ سليمان أن الإنتحار لا يجوز فأجبتها متشاغلا بقراءة عنوان لكتاب موجود على مكتبي، بل هو مُحَرّمٌ يا أم ميشيل فقالت نعم هذا ما قصدته، هل تؤمن يا أستاذ بأن ولدي يتعذب مِما فعله؟ وهنا أصابني الوجوم والحيرة، ماذا أقول لهذه الأم المكلومة؟ أطرقتُ بعينيّ إلى الأرض والدموع تترقرق منها، قائلاً لها هل تظنين يا أم ميشيل أنني لا أشعرُ بما يختلجُ في قلبك؟ ففوجئت هي بدموعي تنسكب على وجنتي وقالت أنا آسفة إن سببتُ لك اي ألم لكني أتعذبُ يا أستاذ، فقلت وماذا بيدنا أن نفعل؟ يا أم ميشيل هذا قدرنا أن تتعذبي وأن أتعذب فكِلانا فقدَ ابنه، لكن الله معنا وإن شاء الله يرحمهما، كميل مازال صغيراً كما عرفت من ميشيل وهو بالتأكيد لم يقصد أن يفعل ذلك، أنا أعتقد أنه كان مريضاً، لا أحد يعرف يا أم ميشيل ما الذي حصل غير الله، علينا أن نمضي في حياتنا، أنا لا أطلب منكِ نسيان كميل لأنك لن تنسيه لكن أطلبُ منك أن تُداومي على الدعاء له وأن تفعلي الخير من أجله وليتكِ ... ليتك يا أم ميشيل أن تُسَلِّمي لله كي ترتاحي، فأجابت قائلة: وأنا والله أتيتُ من أجل هذا إليك، .. ماذا تقصدين يا أم ميشيل، ما الذي أستطيع أنا فعله من أجلك؟ أجابت: أريد أن أُسلم وجهي وقلبي وروحي لله، أستاذ سليمان أنا منذ وفاة كميل حاولت كثيراً قراءة الإنجيل لكنني بصراحة لم أجد الراحة التي كنت أتطلع إليها، كنت بأحيانٍ كثيرة استمعُ مصادفة للقرآنِ الكريم، أشعر بكلماتهِ تغزو قلبي ووجداني وأجد راحتي بالبكاء، لا أعرف لهذا الأمر سبباً لكن الأمر يُريحني، أشعر بأنني على طبيعتي عندما استمع لآيات القرآن الكريم، أنا أستاذ سليمان ما عدت أفتح التلفاز إلآ على قناة القرآن الكريم هل تعرفها تلك التي تأتي من السعودية، أرجوك يا أخي أريد منك أن تعلمني كيف أستطيع أن أكون مسلمة....

No comments:

Post a Comment