Monday, October 31, 2011

غربـــــــة - جزء رابع

غربــة - جزء رابع
ما الذي أقوله أستغفر الله ... كل شيء مكتوب وهذا ما كُتب لجميل ... الكثير من الأمور كهذه تدور في عقلي وعلى شفتاي ولا أدري لإرتعاشاتها غير أنني ربما كنت حانقاً أو خائفاً لا ادري ... ما مصير من يقتل زوجته؟ في هذه البلاد ... وهل إن ...
- لقد آذتني سيجارتك يا استاذ (الصوت يأتي من أسفل)
- أنا .. آسف .. من سعاد؟ أين كنتِ يا سعاد .. ماذا تفعلين هنا؟
- أستاذ أحمد ..
- ماذا تفعلين بالفندق يا سعاد؟
- كما ترى
- أود رؤيتك الآن فهناك شيء مهم حصل لصديقي الذي حدثتك عنه جميل! هل تذكرين قصته؟
- نعم .. صديقك الذي جئت من أجله
- نعم هو .. إنه بضائقةٍ كبيرة .. بل أكبر كثيراً مما كنت أتوقع
- فالتأتي إلى غرفتي أو.. أتريد أن آتي إليك؟
- لا هذا ولا ذاك إلى متى ستبقين هكذا يا سعاد أنت في مدينة محافظة، لنتقابل في كافتيريا الفندق ولكن لا تتأخري أرجوك
- حسناً ها أنا قادمة

أغلقتُ باب غرفتي بعدما عدتُ إليها من جديد لأعيد إصلاح هندامي وهرعت في طريقي إلى لقائها لا أدري ما الذي يدور في رأسي ... ما الذي أعادها إلى دربي ... أهو القدر ما يجمع بيننا أم صدفة لا أؤمن بها ... ولما أنا متلهفٌ هكذا لرؤيتها هل اشتاقت لعينيها عيناي أم تُراني في شغفٍ سأرقبُ شفتيها وأطمعُ في الحديث بصمتٍ إليها نعم أنا بشوق إليها ولكن ... قربَ باحة المصاعد وقفت بإنتظار وصولها وما أن رأيتها حتى ترافقت مع يدي يدها لا أعي لكننا تجاذبنا الحديث بأيدينا حتى وصولنا إلى المائدة ولا أدري لِما نسيتُ يدها بيدي وعندما تنبهتُ سحبتُ يدي فضحكت وهي تضع يدها على فمها
- هه .. ما الذي حصل لصديقك أخبرني؟
- إنه بالسجن متهم بقتل زوجته
صرخت سعاد
- ماذا .. (جميع من بالكافتيريا التفتوا إلى مصدر الصوت بعدما سمعوا ما صدر منها)
- أرجوك فالتمسكي أعصابك لسنا الوحيدين هنا
- (هامسة) .. أعذرني .. لكن الخبر لم يكن متوقعاً، لم أكن لأتصور أنه بهذه القسوة ... صديقك هذا
- لا يا سعاد لا أدري .. لست متأكد من أنه هو الفاعل

وحدثتها بما عرفته منذ وصولي إلى الأقصر وعثوري على شقته وما دار بيني وبين أصحاب الشقة الجديدة من حديث والمعلومات التي حصلت عليها منهم، ذهلت سعاد لما سمعت وكانت بدورها تطرح بعض الأسئلة التي كنت أجيب على بعضها مما عرفته وعلى بعضها الآخر مما أستنتجته من المعلومات التي اكتسبتها
- هذا فظيع ما سمعته منك يا أستاذ أحمد فظيع ومقرف، كيف تستطيع امرأة أن تفعل ما فعلته هذه المرأة وقد ضحى زوجها بكل شيء كما تقول من أجلها، ولكن هل الشرطة متأكدون من أن المرأة المقتولة هي زوجته ولكن اين أطفاله؟
- لا أعلم فأنا لم أحادث أحدا بهذا الموضوع بعد، لكنني بانتظار معلومات جديدة هذه الليلة وربما أستطيع مقابلة جميل في سجن المركز
- ستذهب إلى سجن المركز، لماذا؟
- كي أراه، سافرت كل هذه المسافة لكي أراه وسوف أراه
- وحدك !
- لا أدري ربما يأتي سعيد معي
- من سعيد هذا؟
- النادل الذي حدثتك عنه
- حسنا سوف آتي معك إذن
- ماذا !.. تأتين لماذا؟
- أنا محامية يا أستاذ ... حسنا محامية ..لدي خبرة في الأحوال الشخصية .. مدافعة عن حقوق المرأة... لكنني محامية وأستطيع أن أمسك قضية صديقك هذا … إن كان بريء
- لا أدري ولكن إذا سمح لي صديق سعيد هذا بمقابلة جميل فلا أظن بأنه سيسمح لك بمقابلته
- ومن قال لك إنني أريد موافقته، غداً سأذهب لمركز الشرطة وأعلن نفسي محامية عن صديقك هذا أمام النيابة العامة ما أسم جميل الكامل؟
- جميل مصطفى حسن ولكن ...
- حسناً لا أريد أية أتعاب أو مصاريف سأمثله من أجلك
- ما رأيك بأن نطلب العشاء.. ألست جائعة؟

وكنا قد اندمجنا في الحديث حتى أننا لم نقم بطلب أي شيء نأكله فناديت النادل وطلبت منه قائمة الطعام، ساعدتني سعاد في اختيار وجبة العشاء (ساعدتني!، هي لم تدع لي فرصة اختيار صنف واحد) قائلة :
- أهل الدار أدرى بطعامهم، فوافقتها قائلاً :
- إن مرضتُ من هذا الطعام هل ستتحملين مشاق علاجي وتمريضي
- ولِما تعتبره مشاق؟ لن أرضى أن يعالجك أحد غيري امرض وأنظر
لا أعلم لِما وضعت يدي على يدها بدت وكأنها حركة لا إرادية ... ويبدو أنني أعتبرتها حركة إمتنان لما قالته لي، كأنني زرعت شيء ما في عروقها وأمددتها بدفئ لم تشعر به سابقاً إلآ أنني سحبت يدي عن يدها فما كان منها إلآ أن وضعت على يدي يدها وكأنها تؤنبني وتطلب مني إعادتها فسرت قشعريرة بجسدي عندما لامست أناملها يدي وأحسستُ بأنها تشعر بما أجده منها عند ملامستي إياها، وبدون مقدمات قلت:
- سعاد ... هل أنت ... مرتبطة
أجابت وهي تستعيد من يدي أناملها
- تعني ... مخطوبة ، كلا لِما؟
- مجرد تساؤل
- مجرد تساؤل .. ما بك الآن، أتخفي عني هل أنسيت أننا أصدقاء
- أصدقاء ... نعم بالطبع نحن أصدقاء
سعاد مبتسمة وقد اقتربت مني هامسة وكأنها تسر لي أمراً
- أصدقاااااء .. أمتعجل أنت دوماً في أمور الصداقة
- ماذا تعنين يا سعاد وما هي هذه الأمور
- سألتني إن كنت متزوجة أو مخطوبة فأجبتك بلا ولكن يبدو بأنك نسيت بأن هناك مشاعر أهم يا باشمهندس من الارتباطات الرسمية فيحتمل أن أكون أحب ..هه
- تحبين ... نعم لما لا لكنني لم اسألك إن كنتِ متزوجة بل مرتبطة
ولم أستطع تكملة حديثي الذي قاطعه سعيد الذي أتى وهمس في أذني بأنه يريد مكالمتي على انفراد، اعتذرت من سعاد وانفردت بسعيد
- هه ما وراءك يا سعيد؟
- لقد رفض في بداية الأمر الموضوع قائلاً بأن ذلك يحمله مسئولية جسيمة هو لا يستطيع تحملها، ولكن بعد أن شرحت له الأمر وأريته بعض المال فكر بالأمر قليلاً ولانت عريكته شيئاً لكنه إشترط أن تكون الزيارة في مناوبته الليلة واتفقنا أن يكون ذلك في الثانية صباحاً حيث أن هذا الوقت يناسبه، فبه يخلد الضابط المناوب للنوم وتقل الحركة في المركز ويصبح الأمر أسهل بعض الشيء
- وأين الملتقى يا سعيد أنا لا اعرف هذه المناطق هل ستكون معي (يومئ بالإيجاب) حسناً وكيف سنلتقي؟
- سأكون بالفندق يا بيه .. لا تقلق دع هذه الأمور لي وعندما يحين الوقت سأتصل بك في الغرفة، حسناً
- هذا جيد اذهب الآن ونل قسط من الراحة إلى أن يحين موعدنا
- إلى اللقاء يا بيه
- لن انسى يا سعيد ما تقوم به ... شكراً

توجهت إلى سعاد فيما كان النادل يفرش على المائدة ما طلبناه من الطعام وأنتظرت حتى إنتهى مما يقوم به وأخبرتها بما تم الإتفاق عليه وبأن الموعد
- اليوم الساعة الثانية صباحاً
- تعني غداً صباحاً، (ضاحكة)
- نعم أعني غداً، (لكنني أضحك على غير عادتي)
فلمست بأصابعها يدي قائلة:
- ما بك يا أحمد .. أقصد أستاذ أحمد؟
- لا شيء
- إنك حزين وهذا يجعلني أشعر بالحزن، أغاضب أنت مني
- لا ولما الغضب؟
- أعني عندما قلت لك بأنني ربما أحب
- هذا شأنك الخاص بالطبع وليس من حقي التدخل بما لا يعنيني
- لا ، ربما لم تفهم قصدي
قالتها فيما كانت تضع بعض السلطات في طبقي وأردفت:
- كل فأنت ضيفي هذه الليلة
- ... لماذا تتكلمين .. دعي عيناك تقول ما تريدين ..
- كل الآن ودع حديث العيون جانباً حتى الانتهاء من الطعام فهنالك الكثير مما سنتحدث به ولكن كل أولاً

ليلُ الأُقصر جميل يشع من جوانبه عبق الآثار القديمة المنتشرة هنا وهناك، أينما قصدت فأنت أمام تاريخ حضارة تذخر بقصصٍ من الماضي العريق، وهاهي سعاد نتاج حضارةٍ امتدت لآلاف من السنين تجلس أمامي تحادثني، تضحك أحياناً وتومئ لي بأن أسرع بالأكل، بالأمس القريب كنت في دوامة الغربة وحيداً لا أعرف طعماً للحياة، أيام رتيبة خلتها ستمتد معي لآخر العمر، وفجأة ودون سابق إنذار تتبدل حياتي تنقلب رأساً على عقب، الإثارة أصبحت تملئ حياتي منذ أن داست قدماي أرض هذه البلاد الجميلة ، ماااا..أتعس حياتي تلك، كلما خطر ببالي أنني سوف أعود لتلك الحياة الرتيبة أشعر بقلبي يغوص في أعماقي يئنُ جزعاً وخوفاً من المصير الذي رأيته ماثلاً أمامي في ليالي الوحدة، فراغٌ نفسي قاتل
- الحمد لله لقد شبعت
- حسنا لم أحب أن أسألك عن الطعام ومذاقه قبل أن تنتهي من وجبتك كلها أخبرني الآن كيف وجدت الطعام
- مازلت حياً على الأقل، مع أنني كنت أتمنى أن أمرض منه
- لماذا؟ أهـ...ههههههه
- ......
- فهمت .... يا لك من طفلٍ كبير
- حسناً ماذا الآن .. فالنحتسي القهوة ولنقرر بعدها ماذا سنفعل
- لم تسألني ماذا حصل معي
- أين ... ؟ أهـ يا إلهي .. سعاد أرجو أن تعلمي أنني آسف ... نعم كيف كان يومك أرأيت جُثمان والدك
- لا .. لكن زوجة أبي ... أحمد شيء غريب، لم أعهدها حنون هكذا مع أنها كانت لا تطيق رؤيتي
- لماذا أتغار منك أم ماذا
- القصة ليست كما تتصور، والدتي رحمها الله كانت صديقة لها، كان ذلك منذ زمن بعيد جداً وزوجة أبي هذه كانت تحب والدي وهي كانت على وشك الزواج به ... يبدو أنه شاهد والدتي بإحدى زياراته للقاهرة فأحبها ولم تكن والدتي تعلم بالأمر، أهل والدتي كانوا من طبقة الأثرياء وكان والدي من الرجال المكافحين لم يترك له والده سوى قطعة الأرض التي عاش والدي بها في هذه المدينة، لم يكن فلاحاً بل مهندس زراعي وحاول أن ينجح في مجال تربية الدواجن والمواشي لكنه كان دائم التعثر لسؤ طالعه، تزوجا رغما عن إرادة جدي لوالدتي رحمه الله ولكنه عاد وتقبل زواجهما حيث أنه لم يُرزق غير والدتي وعندما حملت والدتي بي كان أسعد جد في الوجود لكن الأقدار لم تمهل والدتي كثيراً فماتت بعد مجيئي بوقت قصير، لم تغفر جدتي رحمها الله لوالدي أبدا حيث أنه لم يكن يحب سكن القاهرة وأنا أعذر جدتي لأن الوالدة توفت بعيداً عنها هنا بالأقصر، هذا ما عرفته من والدي، أصرت جدتي فيما بعد أن تحتفظ بي تحت رعايتها في القاهرة وأن أظل معها خوفاً من أن يتزوج والدي من إمرأة أخرى وبالفعل إذ بعد مرور سنتين على وفاة والدتي تزوج والدي رحمه الله من حبيبته القديمة التي لم تنسى الجرح الذي سببه لها زواج والدتي بوالدي، أنا أعذرها ولكن والدي يُقسم أن والدتي لا تعلم أي شيء عنهما، واليوم كان علي أن أرى زوجة أبي التي أخذتني بالأحضان وبكت طويلاً على صدري قائلة بأن الوالد أوصاها بي خيراً وهو على فراش الموت وأن تعتبرني ابنتها، حيث إنني إبنته الوحيدة وهو لم يرزق منها سوى البنين

كان الحزن بادياً على وجهها وهي التي ما فتأت تمسح دموع عيناها بين الفينة والأخرى، يالي من أحمق لقد نسيت في غمرة مشاغلي أن ابتدرها بالسؤال عما جرى معها
- لست أدري ماذا أقول يا سعاد لكنني حقيقة آسف لما حصل لك وأتمنى من الله أن يعوضك خيراً في الأيام القادمة وعسى أن يكون اليوم هو أخر مطاف الأحزان، أنت تعلمين أن كل المصائب لها حلول ....إلآ مُصيبة الموت يقف الإنسان أمامها عاجزاً غير قادر على فعل أي شيء
- الموت حق ... ولا بد منه .. لكن أتعلم ... بت أفتقد حنان الأم التي لم أراها، أشعرُ يا أحمد بأنني اصبحت غير قادرة على الإستمرار في هذه الحياة ... أشعر بوحدة بعد موته ... مع أنني لم أكن أراه كثيراً ... لكنني كنت أعلم بأنه هنا موجود عندما أحتاجه ... الوحدة قاتلة .. هل تعلم ذلك؟
- تعالي يا سعاد هيا بنا نجلس قرب النهر لا بد بأن ذلك سينسينا ما نشعر به من شجون تعالي

كادت الساعة تقترب من الحادية عشرة ليلاً فيما كان القمر يسطع على سطح النهر بأشعته الفضية في الوقت الذي اصطفت العديد من القوارب الصغيرة بعضها مظلم والآخر مُضاء بفانوس صغير برتقالي اللون وكان الباعة ينتشرون هنا وهناك تنادي حناجرهم ما يبيعون فهذا الفول السوداني وذاك الفستق وغيره الذرة يلتقطون السمار وعشاق النزهة الليلية، جلسنا على حافة النهر بعد أن ابتعت قليل من الفول السوداني وزجاجتي مياه غازية
- أخبرني عن نفسك، أقصد أهلك .. حياتك، عملك، الفتيات اللاتي تعرفت عليهن، هيا أفصح عن أسرارك ولا تكن كأبي الهول ... الم أخبرك كل شيء عن حياتي؟
إبتسمتُ وأنا أنظر في عينيها وكأنني أنقل المعلومات إليها قائلا
- ولماذا تريدين معرفة حياة تملؤها التعاسة والرتابة
- أنت هه ... لا أظن هيا اعترف وإلا ....
- حسنا ليس هناك الكثير مما أبوح به فوالدي من أبسط الناس عيشاً هجرت بلدي مع والدي عندما كنت طفلاً لا أعي من الحياة شيئاً، ترعرعت في الغربة وإخوتي وعندما تقدم العمر بوالدي قرر العودة إلى وطنه ... ونسيت نفسي في خضمها وحيداً أشق الدروب، توزع اخوتي كل في بلد وبقيت وحدي في الكويت أعيش في رتابة العمل وروتين الحياة اليومي، أسافر من وقت لآخر فأزور والديَّ وأحيانا أخوتي، حياةٌ عادية لا أذكر أن الإثارة طرقت أبوابي في يوم من الأيام إلى أن جئت إلى هنا و.. تعلمين الباقي ..
- هه أفصح قليلاً ماذا عن الفتيات ألم تحب ولو لمرة واحدة في حياتك؟
- الحب كلمة كبيرة تعني أشياء كثيرة، الاهتمام بمن تحب .. أن ترعاه.. أن تحب ما يحب .. تكره ما يكرهه .. أن تتألم لألمه تسعد لفرحه تذكره في ضعفه كما تذكره بقوته الحب يا سعاد مشاعر وأحاسيس لا يستطيع أي إنسان أن ينسب الحب إليه دون أن يخوض بكل ما أخبرتك عنه وأن يضحي في سبيل من يحب بكل ما يحب
- هكذا إذن ... يبدو لي أنك كنت غارق لأذنيك يوماً بالحب
- كيف؟
- إنك تصف الحب كعاشقٍ وَلِهٍ لم يجد في حبيبه ما يُرضي عِشقهُ، تتألم ...أحمد أنت لم ترى تعابير وجهك وأنت تتكلم، لم تكن هنا بل في مكان آخر، باللهِ عليكَ أخبرني من قاسية القلب هذه؟
- ....
- ألن تخبرني عنها
- لا ... ليس هناك ما يستحق أن أقول
- إذن هناك سر بحياتك لا تحب الخوض به .. من أنت يا أحمد؟
- لننسى هذا الموضوع سعاد .... لنتكلم عن أي شيء آخر
- لا بأس... عن أي أمر؟
- عنك مثلاً .. نعم كلميني عن نفسك .. آ.. ألم تحبي أحداً من قبل
- طبعا أحببت ومَن منا لم يُحب
- لا أقصد جدتك أو والدك
- أعرف قصدك
- أتعنين بأنه سبق لك الوقوع بالحب
- ليس الحب الذي تكلمتَ عنه والذي رأيته في عيونكَ لا لنقُل حب مراهقة ... جامعة ...
- أها أكملي .. ما بك صامته يبدو أنك سرحت بحبك القديم
- لا شيء ...
- عدنا للصمت ... أكملي حب مراهقة هه .. وبعد ذلك
- فقط
- حسناً من هو؟ أكنتما تتقابلان، كم كان عمركما، ماذا كنتما تفعلان، أكملي حديثك
- لا ...
- لماذا ؟
- لننسى هذا الموضوع رجاءاً .....
- آهـ فهمت .. لننسى

نظرتُ إلى وجهها وأنا أحاول تفسير قسماته التي بدت حزينة لكنها جميلة ... من هذه التي تصبح أجمل وهي حزينة لا .. بل أراهن أن الغضب يزيدها أنوثة وسحراً ولكن لماذا يجب علي إطلاعها على هذا الأمر ولماذا هي مصرة على معرفة ما جرى، آهـ مازلت يا أحمد لا تفهم النساء إنهن يتشابهن بكثير من الأمور وهذا الأمر من الامور الذي يتشابهن به جميعهن، ولكن هذا يعني أنها تهتم بي وبما يشغلني نعم إنها على الأقل ابتدأت تنشغل بي وربما معجبة لذا فهي تضغط لتعلم من هي غريمتها، سمراء، بيضاء طويلة، قصيرة، تبدأ رحلة الأسئلة التي لا ولن تنتهي طوال حياتي ولكن لا لن أرضخ لها لن أجيبها على تساؤلها مهما حصل نعم مهما حصل
وبينما أنا في غمرة مناكفتي لنفسي هذه وانشغال بالي فإذ بصوت من خلفي يقول

- أتحب أن تستقل المركب للنزهة بالنهر يا بيه
جاء الصوت مباغتة من ورائي فإذ به مراكبي يرقب زبوناً
- ما رأيك يا سعاد؟
- لا .. لا أظن بأن الوقت يسمح لنا بذلك
- نعم بالفعل لقد تأخر الوقت، إذن لندع ذلك للغد هل سمعت الهانم يا ... ما أسمك؟
- حسن المراكبي يا بيه
- خلاص يا حسن غداً إنشاء الله نركب معك
- أنا أضع قاربي دومآ هنا يا بيه وأسمه وردة السعادة
- حسناً يا حسن إلى الغد
- الهواء أصبح بارداً
- معك حق
- كل شيء أصبح بارداً
- أهـ نعم … ماذا تعنين ؟
ضَحِكتْ بشقاوة قائلة :
- لا ... لا لم أقصدك

نزعتُ السترة عني ووضعتها على كتفيها فيما أخفت وجهها بي فضممتها إليَّ ورفعتُ وجهها صوب وجهي وطبعت قبلة على جبهتها فابتسمت قائلة
- هكذا أحسن لقد ذهب البرد .... عنك ثم أعادت وجهها لحضني
- تعال
قالتها ثم أسرعت في الخطى صوب الفندق ويدها تعانق يدي وتوقفت تنظر إليَّ مستطردة وأنا في مكاني
- تعال أخاف أن تبرد
- لا دعيني هنا فالبرد ليس كما تظنين
- أخاف أن تصاب بالبرد
- وإذا أصبت به هل تبقين بجانبي لتمريضي
- ألم أقل لك إنك طفل كبير شقي

أمسكت يدها إليَّ وجذبتها إلى فمي وطبعت قبلة عليها ومن ثم عدنا إلى الفندق ومن ثم كل إلى غرفته
لم تكن الساعة قد تجاوزت الثانية عشرة والنصف عندما ألقيت نفسي على السرير أنظر إلى سقف غرفتي، كيف حاله الآن؟ بماذا يفكر يا ترى؟ كيف يمضي ليله؟ أخشى عليه من الجنون ولكن هل هو من قتلها ، لا .. لا أظن ... ربما .. لا أعلم ..الفكرة كلها جنون
أزعجني رنين الهاتف يدق بهذه الساعة المتأخرة

- ألو ... من؟
- هذا أنا سعاد ألم تعرفني؟
- نعم ماذا هناك؟
- نعم ماذا هناك؟ يبدو أنني أصبحت أسبب الإزعاج لسيادتك
- لا لم أقصد هذا ولكنني كنت أفكر بجميل وأحواله وفوجئت برنين الهاتف
- حسناً أنا آسفة
- لا .. لا عليك، ماذا تفعلين الآن؟
- أمور نسائية
- ... أهـ أمور نسائية حسناً ماذا تريدين؟
- أحببت أن أقول لك تصبح على خير
- تصبحين على خير يا سعاد
- فقط
- ماذا تقصدين
- لا شيء ... أحمد اتصل بي عندما تعود من لقاء جميل
- ولكن سيكون الوقت قد تأخر يا سعاد
- لا عليك ... سأكون مستيقظة ولكن حتى لو لم أكن، أرجوك اتصل
- اذهبي للنوم الآن فغداً لدينا الكثير مما سنقوم به
- أعرف هذا ... ستتصل بي ؟
- حاضر سأتصل
- وعد
- وعد
- تصبح على خير يا حـ ..... يا أحمد
- تصبحين على خير يا ... سعاد (ضاحكاً)
- هكذا .... طيــــــــــب (مغلقة سماعة الهاتف)
- إنها مجنونة ...

ولكن يبدو أنني أعشق هذا النوع من الجنون، شقية وحلوة ولكن أحبٌ هذا الذي أشعرُ بهِ نحوها أم ماذا لا أدري ولكن يجب أن لا أدعها تؤثر بي، أنا لم أفقْ بعد مما كنت به ولا أريد أن أُصدم مرة أخرى ..
يكفيني ما ذقته من العذاب والهوان، نعم أنا لست مستعد بعد للخوض في تجربة حب جديدة ....
ماذا تخبئ لي الأقدار يا ترى ....

أدرت قرص الهاتف للإستفهام من الاستعلامات عن رقم جهاز الفاكس لديهم حيث أنني أريد إرسال رسالة لمقر عملي إذ أنه يبدو من المعلومات المتوفرة لدي والتي بحوذتي حتى الآن أن الأمر ليس بالهين كما كنت اتوقعه ويبدو انه يتوجب علي أن أطيل فترة إقامتي لمدة أخرى أكثر مما كنت أتوقع كما يبدو لي أنني بحاجة ايضاً للمزيد من النقود لذا يتوجب عليَّ أن أتصل بالبنك لتحويل مزيد من النقود فيما لو احتاج الأمر ذلك، أجابني موظف الاستعلامات بأنه يمكنني أستخدام جهاز الفاكس في الوقت الذي أريد، وأن لديهم خط دولي سررتُ كثيراً لهذا الأمر ففي زمن تكنولوجيا المعلومات الذي نعيش به أصبح الإنسان يعتمد بشكل كبير على وسائل الإتصال ومرتبط بها كلياً، طلبتُ من الموظف إرسال أوراق معنونة بإسم الفندق لأكتب عليها ما أريد إرساله فوعدني أن يرسلها بأسرع وقت مع فنجان القهوة الذي طلبته منه
أعددتُ رسالتين إحداهما لصاحب الشركة التي أعمل بها وطلبت إليه تمديد فترة إجازتي لأنني ربما أتأخر عن موعد عودتي الذي أعلمته به سابقاً وشرحت له بعض الأمور التي أستطيع البوح بها
وفي رسالتي الأخرى طلبت من مدير البنك الذي أتعامل معه تحويل جزء من المبلغ المودع بحسابي إلى أي بنك يتعاملون معه في هذه المدينة وأعلمته بمكان إقامتي لتبليغي بتاريخ التحويل ورقمه واسم البنك، وبهذا أكون قد ارحت نفسي من القلق الذي بدأ يساورني ... كانت الساعة تقترب من الواحدة والنصف حينما دق جهاز الهاتف

- الو .. سعيد .. أين أنت الآن
- هل سعيد هذا لديه صوت رخيم كصوتي
- سعاد ! ... ما بك ألم تنامي بعد
- نمت ولكنني حلمت بأنك ذهبت دون أن تلبس ثيابا تقيك من البرد ومرضت و ... حسنا لا أريد تأليف المزيد ولكن عليك أن ترتدي ملابس ثقيلة دافئة فالبرد شديد في الخارج في هذه الساعة من الليل .... ما بك ... أحمد هل أغلقت سماعة الهاتف
- لا ... لكني لم أعتد أن يهتم بي أحد سابقاً
- ....
- آ ... أشكرك يا سعاد صدقيني ... أنا ممتن لك من كل قلبي
- ....
- سعاد .... سعاد
أسمع نحيب بكاء بطرف السماعة سعاد تبكي
- سعاد لما البكاء الآن ماذا حل بك
- آهـ لا شيء أنا جيدة، أنا أحسن الآن
- حسنا سأقوم بالاتصال بك بعد عودتي والآن أريحي عيناك قليلا
- فالترافقك السلامة
- مع السلامة

مع دقات خفيفة على الباب أغلقتُ سماعة الهاتف، كان الطارق سعيد ارتديت السترة ثقيل ورافقته إلى موقف السيارات حيث كان بانتظارنا سائق بدا عليه أنه صديق لسعيد لأنه كان يحادثه باستمرار بأمور بدت لي أنها مشتركة فيما بينهما، السير في المدن خلال الليل غيره خلال النهار، وصلنا المركز بعد حوالي العشرة دقائق وهنا ابتدأ قلبي يخفق كما لم يخفق من قبل للمكان رهبة لا تخفى على أحد وخاصة في أعماق الظلام الذي أحاط بنا من كل ناحية، استأذن سعيد لمقابلة صديقه الذي يعمل في المركز وجلست مع السائق نتجاذب أطراف الحديث بعدما قدم لي لفافة تَبغٍ رخيصة، ثم جاء سعيد بعد فترة قصيرة قائلا :
- علينا الانتظار لحين قدوم صاحبي إلينا
- لماذا ؟
سألته باقتضاب، فأجاب
- يبدو أن الضابط المناوب ما زال يقظاً حتى الآن على غير عادته
- أتعتقد أنه سيتأخر كثيراً
- لا .... أظن بأن الأمر لن يتعدى الربع ساعة فقط
- ربع ساعة .. لا بأس نصف ساعة أيضاً لا بأس المهم أن أقابل جميل
استدار السائق إلى الخلف قائلاً :
- لماذا تريد مقابلته يا سيدي
- أريد أن أعرف منه ما الذي حصل له منذ وصوله من الكويت وحتى الآن
- وهل يعرف صديقك جميل أنك تريد مقابلته الليلة
- لا أدري .... هه ما رأيك يا سعيد هل يعرف جميل أنني أريد مقابلته هذه الليلة
- لا .. سليم أقصد صديقي الذي يعمل بالمركز لم يقل له أي شيء على الإطلاق ولا أظن بأنه يعرف بأنك تريد مقابلته

مضينا العشرون دقيقة التي سبقت حضور سليم في حديث كان معظمه يدور حول جميل
كان يبدو على سائق التاكسي الاهتمام الشديد بحياة جميل في الغربة ، كان يسألني عن طريقة حياته هناك، أصدقاؤه، عمله بل أنه كان يسألني عن طريقة تفكيره وخاصة قبيل عودته مباشرة إلى الوطن، خلت لبعض الوقت بأن سائق التاكسي هذا سوف يعد أطروحة ماجستير عن الجريمة أو أنه من رجال المباحث لذا فهو دائم السؤال عن نفسية جميل

- إنك تبدو كثير الاهتمام بجميل
- يا سيد أحمد لا يخفى عليك بأن معظمنا هنا يتوق إلى بناء حياته ، عملنا هنا لا يسمح لنا ببناء ما نأمل ونحلم بتحقيقه، فرص العمل شحيحة بعض الشيء وإذا توفرت فالراتب يقتل طموحاتك ويجهضها قبل الولاده، لذلك ترانا نحن الشباب نود دائما معرفة كيفية الحياة بالغربة وكيف تكون نفسية من يسافر لأجل لقمة العيش وأرجو أن لا أكون قد أثقلت عليك
- لا .. لا أبدا

جوابه لم يكن يخلو بأي حال من الصحة في بعض الأمور لكنني ابتدأت من وقتها أحاول أن أرد ردا مقتضباً ربما لأنني لم أرتاح كثيرا لطريقة تساؤله
من بين تلآفيف الظلام ظهر شخصٌ يرتدي ملابس عسكرية يتقدم نحونا، فتح سعيد باب السيارة قائلا :
- إنه صديقي سليم سأرى ما وراءه
توجه سعيد لموافاة سليم تحدث معه لثوانٍ قليلة أشار بعدها إليَ بالترجل من السيارة لمرافقة سليم الذي ابتسم قائلاً :
- يا مرحبا أود لو أن الزيارة كانت في وقت آخر لكني أرجو من سيادتك المعذرة
- لا بأس هل أستطيع رؤيته الآن
- نعم ولكن أرجو الالتزام بما أقول، ذلك لمصلحتي ومصلحتك أولاً
- حسناً لا تخشى شيئا سأنفذ كل ما تقول
- مهما كانت
- ماذا تعني ؟ ... مهما كانت .. لا بأس
- أعطني جواز سفرك (وبعدما استلمه مني) هيا بنا
- على بركة الله

توجهت وسليم إلى المركز وما أن تخطت قدماي باب المركز حتى أمسك سليم بكتفي صارخاً بأحد جنود المركز
- ألقي بهذا الرجل في النظارة حتى أتبين صحة أوراقه، هيا بسرعة
ألجم تصرف سليم فمي، أُصبت بالدهشة أهو فخ لي أوقعني به سليم لمخالفتي القانون أم أنها الطريقة التي وجدها كي أستطيع مقابلة جميل لا أدري، نظرت إليه مستفسرا فأشاح بوجهه عني وصرخ بالجندي
- إنت لسه هنا بسرعة
- حاضر يا سيدي، توجه أيها التعس وإلا ......

3 comments:

  1. حوار الغرباء...
    ربما يكون الحوار بين الغرباء أكثر ألفة وعفوية وحميمية .أليس أحمد وسعاد يشتركان في احساسهما بالغربة بذات المعني حتي ان تعريفيهما كان واحدا .فهاهو الكاتب يقول :"...ما أتعس حياتي الرتيبة تلك .....الذي رأيته ماثلا أمامي في أيام الوحدة والفراغ.."هذا القول يتطابق مع قول سعاد :"..كنت اعلم انه موجود هنا متي احتاجه.....الوحدة قاتلة "
    اذا غربة كليهما ليست فيزيائية فحسب بل نفسية .فالكاتب الذي امضي في الغربة أكثر من 20 سنة بشكل لاارادي باعتبار ان والديه هما من اختارا الغربة .وهذه الغربة احالته لغربة اخري بالابتعاد عن اخوته ووالده الذين اختاروا دربا خاصا بهم .وسلسلة معاناته لا تقف عند ذلك الحدّ بل يبدو انه يحمل غربة نفسية وعاطفية كان الحب ضحيتها وهذا يبرز جليا في قوله :"..وفجأة دون سابق انذار تنقلب حياتي ..الاثارة اصبحت تملأ حياتي..".وفي موقع آخر يقول :"..لا.لم اعتد ان يهتم بي احدا.."
    كلّ هذه الاحاسيس تعكس حجم الحرمان الذي يعانيه احمد وربما هنا نستطيع ان نتفهم سرعة استجابتة لطلب صديقه وكأنه ممتن له لاشعاره ان هناك ايضا من يسأل عنه حتي لطلب المساعدة باعتبار ان هذه الدعوة قد أخرجته من وحدته المختلفة الاشكال والالوان .وفي هذا الاطار نستطيع تفسير فرحه بلقاء سعاد كفرح طفل صغير بالعودة لاحضان اهله .نعم اوليست سعاد اهلا له باعتبار تشابه لحد تطابق الحالتين .فهي الاخري عانت من حرمان عاطفي عائلي والذي يمكن الطفل من تحقيق توازنه النفسي .فهذا التشتت وعدم الاستقرار لتعدد الاحضان التي مرت بها من الام والاب الي الاب ثم الجدة ثم الوحدة.فحزنها لم يكن فقط نتيجة موت والدها بل انه ارثا قديما تجره خلفها منذ 27 سنة بشكل اجباري وليس اختياريا بمعني انها لم تختر ذلك .وهذا يطابق وضع أحمد. وكأنهما يدفعان ضريبة اختيارات عائلتيهما .كيف ؟
    فسعاد التي جاءت نتيجة زواج غير متكافىء بين ام من طبقة نبيلة واب من طبقة بسيطة ودون موافقة جدها لامها باعتبار الفوارق المادية بين العائلتين .وهنا نتسائل :أليس هذا واقع موروث وللاسف في عالمنا العربي .حيث يخضع الزواج للمعيار المادي والانتماء العائلي وبالتالي وكان الزواج اصبح منغلق علي طبقة بعينها .فالتكافىء بين الازواج يخضع لمقياس الفقر والغني .وهذه نقطة مهمة يوردها الكاتب .حيث اصبح الزواج صفقة تجارية يعقدها الاهل للمحافظة علي مصالحهم المادية .وفي هذه الحالة يتعرض شعور الحبّ للاعدام .حيث لايراعي الاهل في مسألة الزواج رغبة ابنائهم وانما مصالحهم العليا .وهذا قمة الانانية.وهنا نقف علي التفكير النقيضي للشرق المحافظ والمتدين حيث نلاحظ في هذه المسائل وأقصد مسألة الزواج حيث يتم التخلي علي الفقه الديني والذي يعد الاعتبار المادي من آخر بنود الزواج .وكأن الكاتب يعري هذه الازدواجية في التفكير والسلوك الشرقي حيث يرفعون لافتة التدين والحرص علي تعاليم الدين ثم يخوننه في اول امتحان له .فسعاد والتي اسهبت في الحديث عن ظروف نشأتها وكأنها تبرر للكاتب تفسير سلوكها الاتي او اللاحق من اختيارها السكن لوحدها وعدم اللحاق بأبيها وكأنها في كلّ ذلك تنتقم لنفسها من هذا الشرق الذي كبلها دون موجب ودون خيار منها بل وجعلها تدفع ضريبة ما لم تقترف .وربما ايضا في هذا الاطار تتنزل مرافقتها وحميميتها مع أحمد فكلاهما يعاني من حرمان عاطفي وكلاهما وجدا في الاخر ملاذا عاطفيا .فهل علاقاتهما المنسجمة هي انتقام من ماض ؟أم انتقاما للحرمان ؟أم قصاص من المجتمع ونواميسه الذي قسي عليهم دون موجب ؟

    ReplyDelete
  2. it seems that we have problems adding new comments the system is not accepting but one.

    ReplyDelete
  3. فمن خلال حركاتهم وحديثهم ورغبة كل واحد منهما من مشاركة الآخر الامه وحزنه والتخفيف عنه فانظر الي احمد كيف يجعل من سعاد شريكة له في حمل قضية صديقه جميل وتتطوع سعاد للدفاع عنه أوليس المحروم والمظلوم افضل من يشعر بمثيله ؟ بل نلاحظ ان العلاقة تجاوزت المشاركة في الالام الي خوف احدهم وحرصه علي الاخر فهاهو احمد يقيها البرد بخلع سترته وهاهي تنبهه من الخروج ليلا دون التدثر بما يقيه من البرد .هذا التلامس العاطفي يشكل نوع من التعويض لكليهما .فهل هو اعجاب ام رغبة في التعويض وتفريغ حزن سابق ؟ أم رغبة في تجاوز غربتيهما ؟
    وكأننا بذلك نقف علي ثالوث حرمان :جميل -سعاد-أحمد وكلّ يعكس صورة من الظلم والحرمان الذي يعيشه الانسان الشرقي والامر الاهم التعاضد بين اصحاب القضية الواحدة .وكأن الكاتب يحيلنا لمعني ايدابي للحرمان بقوله ان هذا الاحساس يولد ايضا قيما انسانية نبيلة كالتكاتف والتلاحم والتآزر والتعاطف ...أوليس منرحم الحرمان تولد المحبة والتعاضد ...
    وكعادة الكاتب ومن شقوق المعاناة يزرع الامل ...
    بل ان الاحساس بالحرمان والغربة جعله اكثر وفاءا لقيم يؤمن بها وهي الوفاء والتضحية نعم التضحية .كيف ؟
    سعيه المحموم للوصول لصديقه والوقوف علي حقيقة ما جري له واشراك اطراف اخرين كسعاد والنادل والشرطي مقابل عطاءات مادية وكأنه بتوزيع الادوار يخف حمل الثقل الذي يعتبر نفسه مسؤولا عنه .....ولكن هنا ايضا نقف علي امر هام وهي استشراء ظاهرة الرشوة في العالم العربي حيث يصبح القانون قابل للمقايضة ولكن الكاتب هنا لايتهم هؤلاء الاشخاص بعينهم بل ينقد وبشكل مستتر الحكومات كيف ذلك ؟
    انظر لحواره مع السائق الذي يستفسر عن احوال جميل في الغربة لنعرف كيف ينظر هؤلاء البسطاء والرازحين في اوطانهم تحت طائلة الفقر للاختلال بين مصاريف عائلاتهم ومداخيلهم مما يجعلهم يرتمون في احضان الهجرة مرغمين لا مخيرين ...وكأن الكاتب يبرر في زاوية ما هجرة جميل حيث ها انه يقف علي ان الهجرة تشكل هاجس للشباب كحلّ وحيد للخروج مما هم فيه وبهذا ينقد عجز الحكومات وفشل مشاريعها في توفير مواطن شغل تليق بمواطنيها..وهنا يصل بنا الي امر هام او سلسلة مترابطة ليقول :" لو وجد جميل ما يسد رمقه ويفر له عيشا كريما لما هاجر ولما خلف زوجته ورائه ولما حصل معها ما حصل وهنا كأننا به يقول ان اول خيانة لم تكن خيانة سميرة زوجة جميل انما خيانة حكومات لشعوبها فهي من فتحت الباب لانتشار هذه الظاهرة ..أوليس نحن في حضرة تفكير حكيم ؟
    وكأنه بذلك يبرر من ورائها كل الظواهر الاجتماعية كالرشوة .
    والكاتب يطرح ذلك مع نقاط تعجب كثيرة خاصة عند مراوحته بالوقوف علي عمق الحضارة المصرية وامتدادها وشموخها وبالتالي يقف حيران بين نقيضين :هل يمكن لهذه الحضارة المبدعة ان يكون مصير شعبها كما ينقله لنا .وبالتالي يتعمق مفهوم الخيانة لتصل بمداها الي خيانة ارث ثقافي عريق علم الانسانية قيم عدة فلما دفنت في تربتها الاصلية....؟
    ودائما وكما من عمق المآسي والمعاناة يولد الكاتب معان سامية او لنقل يحاول ان لا يستمر في نقطة المجبور والمضطر الي نقطة الفاعل والذي يحاول ان يختار وذلك بتوليد هذه المعاناة الي حياة وسيرورة افضل يكون للاختيار دورا مهما ونكون فيه فاعل لامفعول به .....واعتقد هذه الروح المتخفية او المستترة نراها تطل بين الحين والاخر فها هو حسن المراكبي الشاب البسيط يطلق علي مركبه " وردة السعادة ؟..ليقول لنا الكاتب ان الانسان يحاول فعلا ان يخلق السعادة ويزرعها حتي وان كان قد اقتقدها....اذا هي الروح الشرقية التي تحمل في داخلها اشعاع الحبّ ارادة الحياة ..ولكن هل ستسمر هذه الروح في خضم ما تعرض له الكاتب أخيرا ؟
    لايبق امامنا غير الانتظار مع تشويق كبير يحدونا لاكتشاف مسيرة هذه الروح المغامرة والمعطاءة....
    شكرا حكيم

    ReplyDelete