Tuesday, November 1, 2011

غربـــــــة - جزء خامس

غربة - الجزء الخامس
قادني الشرطي إلى غرفة الحجز وهو ممسكاً بي من كتفي وما أن فتح بابه حتى دفعني بداخله مغلقا عليَّ بابها الحديدي قائلاً :
- اِلزم الأدب فالجميعُ نيام

وقفتُ في وسطِ الغرفة المظلمة أحاول أن أرى ما بداخلها ولكن عيناي لم تكونا قد تعودتا على الظلام بعد، فهمستُ بحذر وأنا أحاول في كل مرة أن أستجمع ما تراه عيناي " جميل "،"جميل "
- من .. من هنا؟
أتى الصوت من خلفي، شبحُ رجلٌ قابعٌ بزاويةِ الغرفةْ بيده لفافة تبغٍ أضاءت وجهه لثانية من الزمن عندما سحب بعض من دخانها، عرفته على الفور مع أنه يبدو ناحل بعض الشيء
- هذا أنا يا جميل
- هذا أنا …(بتهكم) .. من أنت؟
- أحمد
- أحمد من يا هذا؟
- أحمد ... صديقك أحمد نافع .. الكويت
- ... أحمد نافع صديقي ، أحمد !
- نعم
- غير معقول .... أحمد ولكن
- نعم جئت ألا تريد رؤيتي؟
- أريد ولكن .... غير معقول .. ما الذي أتى بك؟
- ما بك يا جميل ( وجلست قربه ، أشعلَ عود ثقاب ليرى وجهي)؟
- ( فرحاً، غير مصدق ) هذا أنت يا أحمد (وانخرط في بكاء مرير)؟

ألقى ما بيده وحضنني بقوة مجهشاً بالبكاء، حاول التكلم ولكن العبرات كانت تخنقه دوما فلا يستطيع سوى التعبير بأصوات لم أفهم منها أي شيء كنت أشعر بدموعه تنساب كأنهار حارقة على رقبتي
- أنا هنا يا صديقي معك، سأبقى معك إلى أن تنتهي هذه القصة، اخبرني كيف حالك ... ألف لا بأس عليك (لكنه مضى في بكائه وأصبح نحيبه متقطعاً حتى أنني شاركته في البكاء، كان يؤلمني ما به وأنينه الذي ينطلق من فيهِ ليتأرجح بين الماضي والذكرى ويغوصُ في ظلماتِ كلماتهِ يُنبِّشُ عن الأحرفِ المتآكلة في جوفهِ ... تجتاحه المشاعر الصماء ... وبين هذا وذاك ترى عيناهُ خائرة القوى باردةً لا معنى للنظراتِ فيها، ساهية تخالها تنظرُ إليكَ فيما تُطالع عوالمَ لا تُدركها الأبصار ... اي قسوةٍ تِلكَ التي عايشتها بين الجُدران يا صديقي ... اي مصيرِ تخبئه لك الأقدار ... ومن سيخطُ دروبك ويرمي بالهواجسِ التي تنتابكَ كُلما غفى الليلُ أو رقد النهار ... كان قُربي ساهياً في ظُلمة الديجور والجدران التي تكتنز العفونة والأوسان ...رجوته الإفصاح عما يعتريه فأبى وألقى برأسهِ بين يديه كأنه يقدم الإعتذار ... فلا الكلمات تطاوعه ولا النبرات تُشفيه ...وقد غابت عن رأسه الأفكار وارتسمت على شفتيه ارتعاشات ... ايقظت فيَّ براءة الإنسان ... وأندت من أعيني الدمع ... بماذا أخبر النفس عنكَ يا صديقي ولم تمضي بعد ذكرى الفراق الذي تعاهدنا به على الوفاء ... اهذا مصير إنسان أم مصير الوفاء؟ حطامُك يؤلمني ويزرع في قلبي الشكوك وتؤرقني عيناكَ التي تُطالع المجهول الذي لم أجد له في عينيك قرار... وأين أباك ذاك الشيخ الجليل وأمُك قابعة في غرفة تدعو الليالي لا تراها إلآ ساجدة أو خائرة القوى تعاني ... وعيناه تندي بالدمعِ يذرفُها أباكَ فلا أعلمُ لأمكَ يصرفُها أم لأجلكَ الليل يعاني)
- ( مكفكفاً دموعه ) ولكن من .. من أخبرك يا أحمد .. وكيف جئت؟
- رسالتك
- رسالتي! .. أنا لم أرسل لكَ أية رسائل
- كيف !.. رسالتك وصلت وبها ...
- أنا لم أرسل أي شيء صدقني
- هل تعني ما تقول .... ولكن ها هي الرسالة بجيب السترة أنظر
أشعل جميل عود ثقاب ليرى الرساله المزعومة ... ثم أجاب
- إنها ليست مني أنا لم أرسل شيء لك يا أحمد
- إذن من أرسلها ؟.... هل أنت متأكد
- بالطبع يا رجل ... متأكد كما أراك أمامي
- ولكن من سيرسلها إن لم تكن أنت مرسلها؟
- لا أدري ... (وهو يفكر) حقاً لا أدري يا أحمد
- فلننسى موضوع الرسالة، كلمني عن حادثة القتل
- أي حادثة وأي قتل يا أحمد .. هل صدقت ما يقولون، جاءتني الشرطة لمنزل الوالد ثالث يوم وصلت به من السفر أوثقوا يداي واقتادوني للمركز أمام والدي ووالدتي المسكينة التي أغمى عليها، يقولون بأني قتلت زوجتي، ما هذا الهراء إنها تلك الخائنة نعم لفقت تهمة زائفة باطلة ،، نعم وأظن بأن صديقها هو من رجال الشرطة، وإلا فأين جثتها لماذا لم يدعوني أرى جثتها، الموضوع كله ملفق أنا لن أسكت أريد أطفالي ولتذهب هي إلى الجحيم مع من تشاء
- أمتأكد أنت مما تقول
أشعل لفافة تبغ، قدمها لي بعد أن أشعل لفافة اخرى منها
- يا صديقي هنا كل شيء جائز فأنت لا تعلم ما يحصل ألا تقرأ الصحف، ولكن لا ...نعم لن أكون ضحية، فليذهبوا إلى الجحيم
- حسنا هدأ من روعك أخبرني أين أستطيع مقابلة أبيك
- أهـ أنا آسف يا أحمد، أين تسكن لا بد أنك أنفقت مبلغا كبيراً من المال حتى تستطيع المجيئ والعثور علي
- فالتنسى المال الآن ولا تفكر بهذه الأمور يا صديقي ، فقط أعلمني بعنوان والدك كي أراه
- حسنا احفظ هذا العنوان (الشارع الرابع ، محلة الصيادين رقم 5 الحاج مصطفى حسن سالم)
- حسناً أخبرني الآن ماذا حصل معك منذ أن وطأت قدماك أرض الوطن بالتفصيل، لا تنسى شيء يا جميل بالتفصيل!
- ماذا حصل معي، صدقني يا أحمد لا شيء، يعني أمور عادية تحصل لأي إنسان منا
- كل شيء مهما كان صغيراً فربما ينكشف به أمور كثيرة، كل شيء
- غادرت المطار بعد أن دقق موظفو الجمارك بأمتعتي ومن ثم ركبت التاكسي متوجهاً لموقف السيارات الخاص بمدينتي ومن هناك توجهنا إلى الأقصر، لا شيء غير عادي حتى وصلت إلى المدينة وكان الجو ممطراً ، كنت أعلم بأنني سأجد الأولاد نائمين لأن الساعة كانت قد تجاوزت التاسعة والنصف بقليل و.....
وهنا فتح باب الحجز ودوى صوت الشرطي أحمد نافع كررها مرتين فلم أرد عليه فصرخ اللبناني وعندما أجبته صرخ بي قائلاً :
- إفراج يا حبة عيني .. هيا بسرعة وإلا غيرت رأيِّ هيا
وهنا ودعت صديقي على أن أراه بأقرب وقت

خرجت من زنزانة الحجز، استقبلني سليم بمكتبه بعدما تسلمني من الشرطي قائلاً أمامه بأن أوراقي سليمة، جلستُ على مقعد قدمه لي وطلب لي كوباً من الشاي الساخن
- أعتذر لك، ولكنها الطريقة الوحيدة لإدخالك الحجز دون أن يلقي أحد باله لما يجري، دخولك الحجز بهذه الطريقة سليمة مائة بالمائة فلن يشُكَ أحد بما جرى ... وبالتالي فهي قانونية
- أعترف لك بأنني شككت للحظة بأنك تود فعلاً حجزي، يا سيد سليم .. إنك ممثل بارع
- حقاً .. أتظن ذلك؟ هه ... نعم لكن مفيش حظ .. عموماً أرجو أن تكون قد استفدت من مقابلته
- نعم لكنه يصر بأنه لا يعلم أي شيء عن الواقعة، أخبرني يا سيد سليم هل فعلاً وجدت الشرطة زوجته مقتولة
- مذبوحة يا سيد أحمد نعم مذبوحة ولكن هناك شيء بدا لنا غامضاً في بداية الأمر
- ما هو
- موت الزوجة قرر الطبيب موعد وفاتها قبل العثور عليها بثمانية وأربعون ساعة على الأقل يعني يومين ووجهها كان مشوه وكأن القاتل يحاول طمس معالمها ... بصراحة حاجة غريبة أول مرة تحصل عندنا
- متى كان عثور الشرطة على الجثة يا سيد سليم؟
- في الليلةِ التي قُبض بها على جميل
- وكيف تم التعرف على الجثة بأنهم زوجته أم أولاده
- من خلال محضر أهل الزوجة الذين أبلغوا عن اختفاء ابنتهم وأطفالها والطبيب الشرعي ووبعدها تم التعرف على الجثة
- ومتى كان تاريخ هذا المحضر
- تاريخه قديم بعض الشيء
- أأستطيع معرفة التاريخ بدقة يا سيد سليم لأنني أظن بأن ذلك سيساعد على سير العدالة
- أتظن بأن جميل ليس هو القاتل
- تصوراتكم استنتجت على أسس لا بد وانها موجودة والطبيب أكد بتقريره بأن وفاة الزوجة حدث قبل ثمانية وأربعون ساعة كما تقول من وصول الشرطة والعثور عليها
- نعم التقرير الطبي واضح
- حسنا متى أُلقيَ القبض على جميل
- بنفس الليلة حوالي العاشرة مساءاً
- ولماذا حدث هذا التأخير
- استقدام المعمل الجنائي والتعرف على الجثة للتأكد من هويتها وغيرها من الأمور الروتينية، مع العلم بأننا ضربنا الرقم القياسي بسرعة استنباط المعلومات وتجميعها وبعد ذلك تم التحفظ على الزوج تمهيداً لتقديمه للنيابة العامة
- ولكنه مازال هنا في سجن المركز
- آ .. نعم ذلك أن النيابة مازالت تجمع بعض المعلومات عن سلوك الضحية أقصد الزوجة وغير ذلك من الأمور
- أتعني بأن النيابة لم يجتمع لديها اليقين بعد لإتهام جميل رسمياً بهذه الجريمة
- هناك بعض الشكوك، خاصة وأن الوقت كان في صالح المتهم هذا من جهة ومن جهة أخرى فهو مازال ينفي عن نفسه أية تهمة ويرفض حتى توكيل محام عنه، في الحقيقة أنني مع النيابة في هذا، أعني بعدم الإتهام الرسمي
- إذا لماذا لا يطلقون سراحه
- سيفعلون عندما يتيقنون من أن كفة براءته من بعض الأمور سترجح
- لكن ألآ تظن يا سيد سليم أن وجوده في السجن هكذا ظلم له؟
- .... (وهو يشير بيديه بأنه موافق لكن ليس بيده شيء)
- حسنا لقد أطلت عليك أسئلتي وأنا بأشد الشكر يا صديقي على معاونتك لي
- أرجو أن يبقى حديثنا هذا سراً بيننا ... الآن على الأقل إلى أن تنجلي بعض الأمور
- لا عليك يا صديقي فلن يعرف سوانا ما دار هنا من أحاديث، والآن هل أستطيع الذهاب إلى الفندق
- بالطبع يا أستاذ أحمد، بالطبع ولكن الشاي
- مرة أخرى .. إلى اللقاء
- إلى اللقاء
- أهـ سيد سليم متى أستطيع معرفة تاريخ محضر الاختفاء
- سأرى .. ربما أحضره بنفسي إلى الفندق .. في أي غرفة أنت
- في .. الحقيقة لا اذكر الرقم ... سعيد يعرف
- سأسأله عنك إذن لا تقلق
- حسناً إلى اللقاء إذن
توجهت من فوري إلى موقف السيارات، جلست في المقعد الخلفي وطلبت من السائق التوجه إلى الفندق، ومن ثم صعدت إلى غرفتي وكنت طوال رحلة العودة صامتاً أحاول أن أفكر مستجمعاً بعض الخيوط التي ابتدأت تظهر على السطح
إذن من أرسل الرسالة لي؟
لو أن جميل هو القاتل فكيف عرف بمكان زوجته واين هم أولاده؟
وبهذه السرعة الخرافية ... ولما محضر اختفاء؟
من قدم لمحضر الإختفاء؟
من يعلم بموعد عودته من السفر سوى زوجته التي داوم على إخبارها بساعة وصوله التي كان يعتبرها ساعة الصفر ربما أهله طبعاً، من غيرهم؟ العشيق بالطبع لكن هذا لا يكفي يجب علي أن أجمع بعض المعلومات ولكن الوقت قد تأخر الآن، لأدع كل شيء إلى الصباح، ألقيت بجسدي على السرير بعدما نزعت عني بعض من الملابس ورحت بسبات عميق

استيقظت في صباح اليوم التالي على صداع شديد برأسي، طلبت من موظف الاستقبال بعضاً من حبوب الأسبرين علها تهدأ من ذلك الألم الذي اعتراني، لا بد أني مرهق بعض الشيء بعد هذه الأمسية الطويلة وما سبقها من سفر وبحث وتقصي، نعم لست إلا مُتعباً
جاء النادل بحبوب الأسبرين التي ألقيت بعضها بجوفي وطلبت منه فنجان من الشاي بالنعناع عسى أن يساعد على تهدئة ما برأسي من صداع، يا إلهي سعاد لقد نسيتها ماذا سأخبرها؟

كانت الساعة قد تجاوزت التاسعة والربع صباحاً عندما فكرت بالإتصال بها، لكنها لم تكن متواجدة في غرفتها ويبدو أنها قد خرجت لبعض شؤونها فاتصلت بالاستعلامات أسأل عنها فأجاب الموظف بأنها خرجت في الثامنة صباحاً بعدما تركت رسالة لي، فأخبرته أن يرسلها لي مع النادل حالاً
* عزيزي أحمد أتمنى أن تكون بخير، يبدو أنك عدت متأخراً ليلة الأمس، غرفتك كانت  مضاءة طوال الليل... اتصلت بك مراراً ولكن لا مجيب، أعذرني فقد خانتني عيناي وأنا أنتظر هاتفك، سألت عنك هذا الصباح فأخبرني موظف الاستقبال أنك في الحجرة، سوف أتوجه إلى المركز لأقابل جميل لإصدار وكالة منه كمحامية عنه، أراك بعد عودتي الإمضاء سعاد*
الحمد لله يبدو أنها متفهمة للوضع، شربت فنجان الشاي وأسرعت بارتداء ملابسي، أخذت معي الرسالتين التي أود إرسالهما بالفاكس وتوجهت من فوري إلى موظف الاستقبال أعطيته الرسالتين فوعد بإرسالهما فوراً بعدما أطلعته على الأرقام التي اريد أن أرسلهم إليها وتوجهت بعد ذلك إلى موقف السيارات، أشرت لسيارة أجرة طالباً منه التوجه لمحلة الصيادين الشارع الرابع ولم تتجاوز الساعة التاسعة والنصف صباحاً، وصلت إلى المحلة بعد عشرين دقيقة من الالتفاف والدوران المتواصل بعيداً عن زحام الأقصر في هذا الوقت من الصباح وصلنا الشارع الرابع رقم خمسة، كان بناءاً قديماً مكوناً من دور واحد حوله سور قديم تعلوه من الداخل بعض الأشجار المورقة، أنقدت السائق أجرته ووقفت على بوابة البناء الحديدية بحثت عن الجرس لكنني لم أجده فحاولت أن أدق بيدي على بوابة المنزل لكن الصوت كان على ما يبدو غير مسموع لأنني لم أرى أحد يجيب أو يرد على طرقاتي المتواصلة لذا فكرت بفتح البوابة وأنا أنظر إلى اليمين تارةً والى الشمال تارةً أخرى صائحاً يا أهل المنزل، وبدا بأن الطريقة كانت ناجحة لأنني رأيت رجل يهرول من جانب الحديقة يتساءل عمن أكون، وقفت في مكاني أنتظر وصوله قربي ألقيت تحية الصباح فرد
- وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
- وعليك أيضاً يا حاج، أنا صديق جميل ... أليس هذا منزل الحاج مصطفى حسن
- نعم يا ولدي وأنت هوالسيد أحمد نافع
- نعم هو أنا ...!
- لا تتعجب يا ولدي فأنا بانتظارك منذ فترة
- كيف يا حاج ومن أخبرك بقدومي
- لا أحد ولكنني توقعت مجيئك خاصة وأن جميل كان يتحدث عنك دائما برسائله إلينا ... وبعد الحادثة المشئومة ... أستغفر الله تفضل يا ولدي تفضل إلى الداخل ، أعذرني يا ولدي ... يا أم جميل ... هناك ضيف أفسحوا المجال ... تفضل يا ولدي على الرحب والسعة

توجهنا إلى داخل المنزل الرحيب وجلسنا على مقاعد عربية نظيفة وتوجه والد جميل الحاج مصطفى بعد أن استأذن قليلاً، رحت أطالع منزل جميل الهادئ الذي تدور به حديقة غناء من جميع جوانبه، عاد الحاج وبين يديه القهوة العربية وقليل من التمر وماء زلال، صب الحاج القهوة قائلاً :
- ما زالت يا ولدي العادات العربية، عادات وتقاليد أجدادنا تسري بعروقنا، يعود أصلنا كما أخبرني جدي رحمة الله عليه إلى الجزيرة العربية التي قدم جده منها منذ وقت ليس بطويل واستوطن مع أباه واخوته هذه الأرض الكريمة المعطاء، وها نحن هنا بخيرات الأرض ننعم، متى وصلت يا سيد أحمد؟
- صباح الأمس يا سيدي
- تفضل ( مقدماً بضع تمرات )
- لقد رأيت جميل ليلة الأمس في سجن المركز
- وهل سمحوا لك؟
- لا ولكن تم ذلك بطريقة سينمائية، هل أنت من أرسل الرسالة لي يا سيدي
- نعم ، بعدما ألقوا القبض على ولدي احترت وأنا الشيخ الكبير بما أفعل، أنا يا ولدي لم أرزق من البنين إلا بولدي جميل لذا فليس له في هذه الدنيا سوى الله وأنا وطالما أخبرني عنك وعن شهامتك في رسائله ففكرت بأن أدعوك إلى هنا عسى الله أن يجعلك أخاً له فتستطيع أن تقف إلى جانبه في محنته خاصة وأنني لا أدري ماذا أفعل، منذ الليلة المشؤمة وأمه في حالة سيئة، اخواته كل منها مسئولة عن بيتها وعائلتها لكنهن لم يقصرن أبداً، هه ماذا أخبرك جميل وكيف هو؟

- لم يقل أي شيء يا سيدي سوى أنه لا يعرف شيئا عن الحادث المزعوم وفي الحقيقة هو غير مصدق بأنه يوجد حادث من الأصل
- هكذا إذن، عندما زرته في المرة السابقة أردت إخباره بأن أمه مريضة لكني رأيت حالته لا تسمح ...
- هذا أحسن .... نعم أظن بأن ذلك أفضل له خاصة وأنه داخل السجن فيخشى عليه من الجنون فيما لو علم وخاصة منك يا سيدي
- هذا ما فكرت به .... والآن ماذا يريدون منه
- يا حاج مصطفى متى جاء جميل إلى المنزل يوم قدومه من السفر
- ليلاً
- أقصد بالتحديد
- لا أدري يا ولدي فالوقت كان متأخراً جداً لأنني كنت نائماً بذاك الوقت، صحوت على صوت طرقاته على الباب أضأت الممر المؤدي إلى الحديقة وفوجئت به أمامي كان المطر مازال منهمراً ولكن أظن بأن الساعة كانت بعد الثانية عشرة ليلاً، لما تساؤلك يا ولدي وهل التوقيت بدقة مهم لهذه الدرجة؟
- نعم يا حاج، ألم يخبرك كيف وصل إليكم؟
- كان تعباً مبتلاً من المطر، أدخلته أمه التي صحت على صوت قدومه وعدت أنا للنوم، من كان بسني يا ولدي لا يستطيع السهر طويلاً
- هذا مفهوم يا سيدي طبعاً ولكنك لم تعرف من أتى به إليكم؟
- لا لم أسأله .. ربما سائق أجرة
- ومتى أخبرك بما حصل من زوجته
- لم يخبرني هو بل والدته في اليوم التالي، كان مازال نائماً عندما دخلت عليه حجرته أردت أن أوقظه من النوم، لكن زوجتي أخبرتني بأنه قد نام متأخراً، أجلستني بهذه الغرفة وأخبرتني بكل ما حصل ، إنني يا ولدي لم أكن موافقاً على زواجه من هذه الفتاة ولكن هو وحيد أمه، هه ... الحمد لله على كل شيء
- وماذا عنك ألم تحادثه بهذا الموضوع
- لا يا ولدي كان جميل يخشى أن يفاتحني بالموضوع كي لا ألقي عليه اللوم لهذا فقد كان يتحاشى دوماً التطرق إليه وأنا من جهتي لم أحاول، إلى أن جاء أفراد من الشرطة ليقتادوه أمام عينيّ والدته التي حاولت المسكينة صارخة باكية أن تبقيه بين أحضانها لكنهم اقتادوه غصباً بالقوة بعيداً عن يديها فأغمى عليها وهاهي منذ ما يقارب الشهرين وهي بهذه الحالة، سامحهم الله
- أرجو من الله أن تتحسن حالتها كما أرجو أن تظهر براءة جميل وأن يخرج من السجن لتقُر عينا أمهُ به
- الله يفعل ما يشاء يا ولدي إنه قادر على كل شيء
- حسنا أستودعك الله يا سيدي فعلي مسئوليات يجب قضاؤها والوقت قد أصبح ثميناً كما ترى
- سامحك الله يا ولدي أتود الرحيل هكذا دون أن تأكل في بيتنا شيء، أتظن بأننا سنسمح لك هكذا بالذهاب وأين هي أغراضك لقد جهزنا لك غرفة للمبيت
- لا يا عم أنا أعلم بأنني كولدك جميل وهذا منزلي لكن اسمح لي ولتدعني على راحتي أرجوك وأخي جميل ملقى في السجن وأنا أحاول أن أقصر فترة بقاؤه به، سأعود صدقني يا عم سأعود قريباً بإذن الله
- حسناً يا ولدي بارك الله فيك

توجهتُ إلى خارج المنزل على أمل أن أجد سيارة تقلني لمنزل جميل الذي اشتراه بالغربة، لدي سؤال أود طرحه على أبو محمد الرجل الذي اشترى منزل جميل من زوجته، أشرت لسيارة أجرة بعد انتظار دام خمس دقائق أعطيته العنوان فتوجه على الفور إلى وجهتي، ووجدت نفسي أمام منزل جميل للمرة الثانية صعدت للطابق الثالث وأنا أدعو الله أن أجد أبو محمد، طرقت باب المنزل فسمعت صوت أم محمد قائلة:- من بالباب؟
- أنا أحمد ضيف الأمس
فتحت السيدة أم محمد شباك الباب الصغير مرحبة بي تسأل عن أحوالي فسألتها عن ابومحمد، فأجابت هو في المقهى الذي يقع أول الشارع العام، شكرتها وسارعت بالنزول للقاء زوجها، المقهى لم يكن بحاجة للبحث عنه إذ سرعان ما ابتدأت المقاعد بالظهور مع كل خطوة اقترب بها منه والطاولات الصغيرة وعلى أطرافها المقاعد منتشرة على الرصيف المحاذي له وعلى أحد مقاعدها كان أبو محمد جالساً يتبادل الأحاديث وصديق له وما أن رآني حتى وقف متبسماً ومرحباً بي
- أهلاً وسهلاً أستاذ أحمد يا لها من مفاجأة ظريفة
- أهلاً بك يا أبو محمد لقد مررت على المنزل بطريقي فعلمت من السيدة أم محمد بأنك بالمقهى
- بيتك يا راجل، (وضحك ملئ شدقيه قائلاً ) آ يا أستاذ أحمد لو تعلم ماذا حصل بالأمس بعد رحيلك عنا، لقد نفخت أم محمد ريشها كالطاووس قائلة: ها قد أتى شخص من بلد مشهور بلذيذ الطعام ليؤكد لك بأن طعامي شهي وطيب ومازالت تردد على مسامعي هذه الأسطوانة حتى غرقت بالنوم ليلاً
- إنها طاهية ماهرة يا سيدي ولكن نحن الرجال بيني وبينك لا يعجبنا العجب
- أيوه يا أستاذ أحمد أحسنت بارك الله بك ... تفضل اجلس
- أبو محمد .. (أستوقفني ليطلب لي فنجان قهوة) أبو محمد هل تذكر الليلة التي أتى بها صديقي جميل إليكم
- طبعاً دي ليلة لا تُنسى
- هل تذكر يا سيدي كم من الوقت بقيتم في مركز الشرطة
- طبعاً إلى وقت متأخر لأنني عندما حاولت العودة للمنزل بقيت زمناً طويلاً أنتظر أن تمر سيارة أجرة لكنني فشلت بالعثور على واحدة والمطر كان شديداً فعدت أدراجي إلى المركز فكان أن طلب الضابط من دورية الشرطة إيصالي مشكوراً إلى منزلي وكان معنا السيد جميل الذي كان بحالة تعسة
- ماذا جميل كان بدورية الشرطة لماذا؟
- لأن الضابط طلب من الدورية إيصاله هو الآخر لمنزله خاصة وأن المطر كان غزيراً في تلك الليلة والوقت قد تأخر وكان بحوذته العديد من الحقائب
وما أن جاء النادل بالقهوة ... سألته مستوضحاً
- حسناً هل أوصلتك الدورية قبلاً أم جميل
- لا بالطبع أوصلتني قبله فمنزلي أقرب إلى المركز من بيت والديه حسبما علمت
- الآ تذكر كم كانت الساعة عندما وصلت لمنزلك
- بعد منتصف الليل بقليل
- أي أن جميل وصل منزل والديه بعد الثانية عشرة ليلاً
- بالتأكيد ولكن لماذا؟
- صديقي جميل ملقى القبض عليه بتهمة قتل زوجته
- معقول ما تقول لا غير معقول .... أتقصد بأن الجريمة التي قرأنا عنها... ولكن ... لا حول ولا قوة إلا بالله
- حالته غير جيدة وأي معلومة سوف تساعده
- معلومة زي إيه يعني؟
- مثلا صفة الرجل الذي كان يتردد على زوجته بغيابه، علامات فارقه أي شيء يدل على هذا الرجل الذي أعتقد بأن له ضلعاً بالجريمة
- (مستغرقاً بالتفكير ) نعم .. بالطبع ولكن .. أتعلم لن أستطيع مهما أمتد بي العمر أن أنسى تلك النظرات البائسة التي ارتسمت على وجه السيد جميل، هالني يا رجل تبدل وجهه منذ رؤيتي له أول مرة، كبر الرجل بأمسية واحدة عشرات السنين، صدقني يا أستاذ أحمد أنا لن أتوانى عن مساعدته، لكن هذا الرجل الذي تتكلم عنه أنا لم أراه بحياتي، أي نعم سمعت عنه مراراً لكني لم أره أبداً وأحسب أن أم محمد كذلك إن لم أكن مخطئا
- والسيدة كريمتكم
- تقصد سلوى بالحقيقة لا أعرف .. ولكني أظن بأنها رأته بحكم جيرتهم لها ولكن يجب التأكد منها وسؤالها أولاً، لتنهي قهوتك ولنتوجه للمنزل وسوف أقوم باستدعائها وسؤالها أمامك، أرجو أن تُدلي ببعض الأوصاف التي تفيدكم بالعثور عليه
- أشعر بالخجل يا أبو محمد لقد أثقلت عليكم
- إيه إللي بتقوله يا راجل، ده يكفي ما جرى للسيد جميل، لا بد من مساعدته .. أظنه رجل جيد
توجهت وابو محمد من فورنا إلى منزله ما أن قام بدفع حساب المقهى ولدى وصولنا طلب من زوجته إستدعاء أبنته سلوى من منزلها، عادت أم محمد بعد قليل وبين ذراعيها طفلة صغيرة قائلة:
- أليست جميلة هذه الشقية (تداعبها) إنها حفيدتي ابنة سلوى أسموها سميرة على إسم جارتهم، لكنهم سيغيرونه ... والدها مصمم على ذلك بعدما جرى
- لماذا يا أم محمد إلا يوجد بالدنيا سوى سميرة تلك
- إنه متضايق مما فعلت هذه المرأة والحقيقة كلنا صُدمنا بعد الذي حصل
جاءت سلوى والارتباك يبدو على محياها ألقت السلام وجلست قرب أمها مستعيدة إبنتها منها
- سلوى (وهو يعدل من جلسته) الأستاذ أحمد جاء من بعيد وهو صديق للسيد جميل الزوج الحقيقي للسيدة سميرة سامحها الله وهو يريد طرح بعض الأسئلة ، السيد جميل يا ابنتي بالسجن وبعض المعلومات ربما تلقي الضؤ على براءته
- ونحن ماذا بوسعنا أن نفعل له أوراقنا رسمية ولم نأخذ منزلهم غصبا و........
- يا ابنتي (مقاطعاً) ليس هو الموضوع الذي نحن بشأنه فالسيد جميل لم يشكك أبدا بصحة الأوراق التي بين يدينا بل بالعكس إنه غير مهتم بهذا الموضوع على الإطلاق
- إذن ماذا يريد؟
- بعض المعلومات ... عن هذا الرجل الذي كان يأتي للسيدة سميرة مدعياً بأنه زوجها
- لقد توفى هذا الرجل هكذا أخبرتنا سميرة
- يا ابنتي لا عليك بما أخبرتك به سميرة ... الواضح أن كلامها كله يدور في حلقات من الكذب المتواصل ... زوجها الحقيقي لم تدوس قدماه أرض الوطن منذ خمس سنوات وهذا الرجل يا أبنني لم يكن زوجها كما علمنا من الأحداث التي تلت رحيلها
- إذن ماذا تريدون مني الآن ، أنا لم أتحدث مع الرجل إلا لمرات قليلة كنت أصادفه على سلم العمارة
- (أحمد موجه كلامه لسلوى) ممتاز هل تذكرين شكله، طوله ... لون بشرته أية علامات فارقه على وجهه، لكنته هل هو من أهل الأقصر يعني أي شيء تستطيعين تذكره عنه
- هو طويل وأسمر بعض الشيء .. يعني حنطي شعره أسود مجعد قليلاً عيناه نعم عيناه عسلاويتان ولكنته تدل على ما أظن بأنه من أهل القاهرة ، آ .. نعم يده اليمنى بها جرح غائر، شاهدته مرة يلوح لسميرة بيده وهو يودعها فبان الجرح على يده سألت سميرة عنه فقالت هو من قبل الزواج لذا لا تعرف عنه شيئاً استغربت في البداية لكنني نسيت مع الأيام، حاول زوجي مراراً الالتقاء به لسؤاله عن العمل بالخارج لكن سميرة كانت دوماً تعلل عدم زيارتهم لنا بمشاغل زوجها المتعددة، الحقيقة كان الرجل نادر التواجد بالمنزل لأنه كان يعمل في أسوان لذا فإنه كان يضطر للبيات هناك في معظم أيام الأسبوع
- هل أنت متأكدة يا سيدة سلوى من أنه كان يعمل بأسوان
- نعم لأنني لاحظت في كثير من الأحيان التي كنت أقوم خلالها بزيارة سميرة وجود أكياس بضائع وأوراق من التي يلفون بها الحلوى وغيرها من الأغراض كلها تدل على عناوين محلات موجودة بأسوان حتى أنني سألتها مرة فلم تنكر عمله بأسوان ولكن عندما سألتها عن عمله أجابت باقتضاب لا أدري، لم أسأله هل يعقل أن لا تعلم المرأة شيئا عن عمل زوجها، هه سامحها الله لقد استغفلتني طويلا لن أسامحها أبداً ولا أظن بأنها ستريني وجهها بعد الآن خاصةً بعدما كُشفت لعبتها
- (أبو محمد ينظر لي قائلاً لأبنته) يا ابنتي السيدة سميرة ماتت ولا أظن بأنك سترين وجهها بعد اليوم
- بتقول إيه ماتت(صارخة تضرب كفها على صدرها) ماتت ازاي؟
- القصة طويلة يا ابنتي، هل تذكرين الحادثة التي قرأتها على مسامعنا منذ الشهرين
- لا .. (مفكرة) .. قصدك .. مش معـ ..
- نعم هي يا ابنتي

أغمى على سلوى بعد تشنج عصبي صاحب نحيبها وهنا أخذ أبو محمد بيدي تاركين أم محمد تحاول إيقاظ ابنتها بالنشادر وخلافه وتوجهنا إلى المقهى، جلسنا بعدما طلبنا فنجانين من القهوة كان الرجل قلقاً على ابنته لكنني هدأت من روعه وطلبت منه الإتصال بالمنزل للاطمئنان على ابنته فلا بد وأن تكون قد افاقت من حالة الإغماء التي اعترتها والتي هي عادة لحظية، عاد الرجل مبتسم الأسارير بعد برهة من الزمن وقد بدا الانشراح على وجهه قائلاً لقد أفاقت هي بخير، الحمد لله
استأذنت من أبو محمد للذهاب إلى الفندق بعدما احتسينا القهوة حيث أنني تعباً بعض الشيء فودعني الرجل على أمل أن أراه لاحقاً، ما أن وطأت رجلاي فناء الفندق حتى وجدت سعاد تلوح لي من شرفة غرفتها تدعوني للقائها ببهو الفندق
توجهت إلى موظف الاستقبال الذي أعلمني بوصول رسالة فاكس من شركتي، يعلمني صاحب الشركة بها بأنه لا يمانع بتمديد إقامتي إلى الأجل الذي أريده ولكنه يطلب مني استغلال بعض الوقت لرحلةٍ كان يزمع القيام بها بنفسه إلى القاهرة لمقابلةٍ مالك شركة النسر الذهبي موضحاً لي الموضوع الذي يود مني بحثه مع صاحب الشركة وأعلمني أنه بانتظار ما يستجد بالنسبة لهذا الموضوع وأعلمني أيضا بأن المصاريف الخاصة بهذا الموضوع ستكون على الشركة وإذا تمت الصفقة فرحلتي كلها ستكون على حساب الشركة، في الحقيقة لقد أزعجتني هذه الرسالة كثيراً خاصة وأنني في الأقصر وأبعد حوالي التسعمائة كيلو عن القاهرة والموضوع الذي شغلت نفسي به يستدعي مني أن أكون حاضر الذهن خاصة في هذه المرحلة الحرجة
- مرحباً (وبيدها رزمة من الأوراق)
- أهلاً .. مرحباً كيف أنت يا سعاد ما الذي تحملينه
- أوراق القضية التي أمثلها أعني جميل
- هل وافق جميل على توكيلك
- نعم ، شاهدته إنه وسيم
- وسيم أه .. وهل هذا ما يهمك من الموضوع
- لا أقصد .. لا أدري لماذا خانته زوجته، كنت أتوقع أن أرى رجلاً بديناً ... أصلع ... أعور أي شيء من هذا القبيل ولكنه حقاً من النوع المحبوب
- وهل أحببته ... (ضاحكاً)؟
- دعك من هذا الآن أيها الغيور، إلا تريد أن تأكل موجهة نظرها إلى مطعم الفندق
- بالطبع فأنا لم آكل شيئاً منذ ليل البارحة
- هيا بنا إذن وسوف أكمل لك ما جرى لي ونحن نتناول الطعام
- هيا بنا
توجهنا إلى مطعم الفندق الذي حوى الكثير من السواح القادمين من أوروبا واليابان وأمريكا للسياحة في الأقصر حيث الآثار الجميلة على مرأى العين وامتداد البصر، توجهنا بجولة سريعة على البوفيه الذي حوى الكثير من الأطعمة المنوعة اخترت ما يناسبني وعدت أدراجي إلى طاولتي وأخذت أقلب بأوراق القضية مسلياً نفسي إلى أن تعود سعاد التي توجهت إلى الحمام وبعدها لإختيار الأصناف التي تود تناولها، جاءت سعاد بعد فترة قصيرة كنت منهمكاً خلالها بقراءة التقرير الخاص بالطبيب الذي قام بفحص الجثة، لقد راعني ما كتبه من مشاهداته، شيء مقزز ألقيته جانباً بالوقت الذي جلست به سعاد على مقعدها قائلة:

- صديقك هذا أحد شخصين إما أن يكون شديد الذكاء وإما أن يكون صادقاً بما يقول ولكن المصادفات السيئة لعبت دورها معه
- ماذا تعنين بهذه الكلمات
- أعني لماذا تصادف
أولاً قتل الزوجة مع يوم وصوله
ثانياً منحه القاتل ثمانية ساعات وأكثر، هي المدة التي قضاها جميل في منزل والديه بعد توصيله من قبل دورية الشرطة
ثالثاً اثار سم في جسد الزوجة
- السم ولكن كيف وقد وجدت مذبوحة
- نعم وجدت مذبوحة ولكنك لو أكملت قراءة التقرير سيتبين لك بأن بأن سبب الموت هو السم، والذبح تم بعد الموت يمكن ... ربما للتمويه ... مكتوب كده
- لا تنسى بأن دافع القتل شديد عند جميل ثأراً لكرامته المهدورة وشرفه الذي ضيعته سميرة مع عشيقها هذا، وأيضا لا نستطيع أن ننسى الخمس سنوات التي ضيعها جميل من عمره، التضحية التي قام بها لأجل بناء حياة أفضل وخلافه، جميل يا أحمد رأى كل شيء ينهار أمام عينيه سنوات من الشقاء والتعب، أسرته ... بيته ... حياته ... ربما حبه لها ... كل شيء فكان لا بد له من الانتقام ممن ..؟ بالطبع من الخائنة أليس كذلك ! ولكن لا تنسى بأن غيابه لمدة خمس سنوات عن زوجته خطأً لا يغتفر لا تستطيع المرأة إنتظار زوجها لمدة خمس سنوات .. أظنك تفهم ما أعنيه
- بالطبع ولكن هذا لا يبرر الخيانة وإن كان هذا هو رأيك بالقضية فلماذا قبلتي أن تكوني محامية عنه
- هذا ليس رأيّ أنا لكنه رأيّ النيابة، النيابة سبقتنا بمراحل كثيرة جداً وعلينا أن نثبت بأن المتهم بريء
- ولكنهم يعملون في طريق واحد هل متأكدون أن جميل مذنب لذا فهم يجمعون الأدلة التي تدينه؟
- هكذا النيابة يا احمد هل تظنهم يبحثون عن الحقيقة؟ لديهم جثة ويريدون قاتل ولديهم جميل وليس لديهم شخص آخر.... ماذا تظن؟
- ولكن لماذا لم يتم اتهام جميل رسمياً بالموضوع حتى الآن؟
- هذه منطقة سياحية وأهلها كما ترى مترابطين معاً، النيابة لا تريد أن يكون هناك أي تعاطف مع المتهم خاصة في قضايا الشرف هذه لذا هم يريدون قضية مترابطة في المحكمة كي لا يكون للمحامي أية فرصة لقلب الرأي العام مع المتهم ويصوره بالإنسان المطعون بشرفه الذي ضحى بنفسه الخ..... هم يريدون قضية نظيفة سهلة أمام المحكمة
- حسنا ماذا التصرف الآن؟
- ما الذي حصل معك اليوم؟
أخبرتها بما جرى من مقابلتي لوالد جميل والسيدة سلوى والمعلومات التي حصلت عليها من سلوى عن عشيق سميرة وبأنها تظن بأنه يعيش بأسوان
- سعاد .. لماذا لا يكون هذا العشيق هو القاتل
- ربما كل شيء جائز ولكن أين الدليل؟
- حسناً معك حق ، ومكان الجريمة هل عرفت أين مكان الجريمة
- نعم إنه بمكان ما خارج المدينة على بعد حوالي عشرين كيلو طريق أسوان، بيت قديم
- من وجد الجثة أعني الزوجة
- رجل فلاح يبحث عن ماشية له، فوجئ بما رآه فأسرع بإعلام الشرطة الذين أسرعوا على الفور إلى مكان الجريمة
- هل نستطيع أن نعاين هذا المكان؟
- بالتأكيد ، إنه مكان عام على ما أظن
- حسناً هيا بنا ألم تنتهي من طعامك بعد
- إنتهيت هيا بنا

لم يكن صعباً البحث عن سيارة أجرة تقلنا إلى هذا المكان الذي وقعت به هذه الجريمة، وصلنا المكان بعد خمس وثلاثون دقيقة من السير المتواصل، المكان يبعد حوالي كلم عن الشارع العام منزوي بين الأشجار ... بيت قديم يحيط به سور من الطين المتهدم في بعض جوانبه والكثير من النباتات المتسلقة والأعشاب التي نمت على جوانبه تدل على أنه لم يُسكن منذ فترة ليست بالقصيرة، كان الوقت عصراً لأننا سمعنا المؤذنَ ينادي لصلاةِ العصر من مكان ليس ببعيد، توجهنا إلى مصدر الصوت، فتراءى لنا جمعٌ من الفلاحين يسوقون الماشية أمامهم قرب ترعة تشرب منها بعض الأبقار، توجهت بدوري إلى أحد هؤلاء الفلاحين
- السلام عليكم، كيف حالك يا عم
- وعليكم السلام ورحمة الله، الحمد لله يا ولدي .. كل شيء بخير من الله
- ماذا تزرعون هنا يا عم؟
- كما ترى يا ولدي هنا (مشيراً إلى حقل قريب) الطماطم وهناك الشمندر، وكل حسب الموسم بتاعه يا ولدي تفضل الشاي يا ولدي تفضل .. يا سليمان أحضر الشاي لدينا ضيوف هيا يا سليمان
- جزاك الله خيراً يا عم
أتى سليمان مهرولاً ، شاب في مقتبل العمر بيده بضع كؤوس على صينية متهالكة وإبريق كان بيوم من الأيام فضي اللون سوده هباب النيران في الغيط وضع الصينية على الأرض بعدما صب ثلاث كؤوس لنا واحد لي وآخر لسعاد والأخير لعم عبد السلام الذي كان يحدثنا عن خيرات الأرض وعن نهر النيل المبارك
- أخبرنا يا عم أيأتي الكثير من الناس لهذا المكان؟
- يا ولدي ليس هنا سوى الزرع والحقول كما ترى والأغراب يحبون الآثار لذا فإنهم يذهبون للأقصر أو لأسوان ولكن هنا لا ... إلا عابر سبيل أو تاجر يريد شراء محاصيلنا التجارية
- والبيت الذي يبدو هناك من صاحبه، يبدو حزيناً لا أحد يقطنه لماذا
- هذا البيت يا ولدي له قصة طويلة وقديمة بعض الشيء، عاصرت بنفسي نهايتها عندما كنت بعمر سليمان ولدي الأخير هذا (مشيراً لسليمان الذي أتانا بالشاي) ولكن والدي أطال الله لنا عمره يعرف القصة كاملة فقد عاصرها كلها وربما أطلعك على أمور خفيت عليَ ومن يرى ليس كمن يسمع يا ولدي
- وأين أستطيع رؤية والدك يا عم عبد السلام
- حالاً يا ولدي بعد الصلاة إنشاء الله

توجه عم عبد السلام ونحن معه صوب مسجد القرية التي لا تبعد كثيراً عن المكان الذي كنا به دخلنا إلى المسجد وبقيت سعاد مع نساء القرية اللواتي حسبنها عروسي وكعادة بنات القرية ونسائها أطلقن الزغاريد والتفت النساء والأطفال حول سعاد كل منها تريد من سعاد الدخول لبيتها، البيئة العذراء ما زالت أصيلة في صعيد مصر حيث الكرم والجود والنخوة العربية الأصيلة ، كثير من المشاهدات والوقائع التي نسمع عنها ونراها تؤكد على طيبة أهل البلد، بعد الانتهاء من الصلاة كان هناك درس قصير لشيخ المسجد يحث على حفظ القرآن وتعليمه للأولاد وبعد الانتهاء من الدرس اليومي انصرف الكثير لحالهم بينما بقى كبار أهل البلد من الشيوخ والعجائز وهنا توجه العم عبد السلام إلى والده وأنا معه قائلاً:
- حرماً يا حاج
- جمعاً بإذن الله يا ولدي، هــه ... ما ورائك يا عبد السلام
- عندنا ضيف يا حاج .. و .. ويريد سماع قصة سالم
- قصة سالم .. ليش يا ولدي
- هو هنا يا والدي اسأله
- وهل يسأل الضيف يا ولدي .. على الرحب والسعة (مُرحباً بي) فلننطلق إلى دوار البيت
- سليمان انطلق يا ولدي وأخبر أهل البيت بأن لدينا ضيوف

انطلق سليمان ونحن وراءه وأمامنا الشيخ الجليل الذي جاوز الخامسة والتسعين من عمره منتصباً وكأنه لم يتجاوز الستين وحوله أولاده وأحفاده الذين تجاوز عددهم العشرون رجلاً وأنا على يمينه واضعا كف يدي بيمينه مرحباً بي طوال الطريق ، وصلنا بعد فترة وجيزة إلى دوار المنزل جلسنا على تكايا أعدت لهذا الغرض بينما تجمع شباب العائلة أمامنا على أرض الدوار وابتدأ سليمان بتوزيع الشاي على الحاضرين مبتدأين بي وجدهم الشيخ
- يا ولدي منذ فترة طويلة هناك (مشيراً إلى صوب البيت القديم الذي خفي عن أبصارنا) كان يسكن الحاج حسين الذي كانت له عزوة وسطوة فاقت أهل القرية والقرى القريبة لما لديه من مال وأولاد وماشية، لم يكن أحد من أهل القرية يجرؤ أن يعصي للحاج أوامره التي كانت قاضية ومن يعصيه كان لا بد له من مغادرة هذه المنطقة بأسرها أي لا بقاء لمن يعصي أمر الحاج حسين، وفي يوم من الأيام مر بقريتنا شاب مليح على قدر من الوجاهة والقوة يبحث لنفسه عن عمل ، شاءت الأقدار أن يعمل هذا الشاب الذي أسمه سالم عند الحاج حسين أجيراً في الغيط الواسع وجعله الحاج من جملة أتباعه بعد فترة من الزمن لما رأى منه من الأمانة وحُسنَ الخلقِ وبحكم قرب سالم هذا من بيت الحاج وتردده عليه أحب ابنته فاطمة التي كانت زينة بنات القرية ونوارتها وأحبته الفتاة التي رأت به فارس أحلامها الذي سوف ينطلق بها على فرس أبيض كما هي عادة الفتيات في هذه السن المبكرة، أصبحا يتواعدان سراً كلما واتتهم الفرصة لذلك، يسرقا من الزمن الشيء اليسير الذي كان يكفيهم لكي يتبادلوا به كلمات الحب والغرام، ومع مرور الزمن أصبحت الألسنة تتناول بعض الأحاديث والعيون تتغامز عليهم وكان أن سمع الحاج حسين بما يدور حوله فأحب أن يستجلي الأمور وهو الرجل الكبير فنادى على فاطمة ابنته يسألها عما تناهى إلى سمعه ولكن ابنته التي بقيت صامتة تخشى عقاب أبيها لها لم تنكر ولم تؤكد الأمر، تاركة الموضوع لسالم الذي استدعاه الحاج وأخبره بما سمع من بعض الأفواه، فلم يُنكر سالم حبه لفاطمة ولكنه أنكر غير ذلك من الأمور التي كانت تلوكها الألسن وأخبر الحاج بأنه يريد الزواج من فاطمة فأمهله الحاج ليشاور أهل بيته وأولاده بالأمر، فرح سالم لأنه لم يكن متوقعاً من الحاج هذه البادرة الجيدة، وفي المساء استدعاه الحاج حسين ليخبره بأنه موافق على أن يحضر أهله معه لخطبة فاطمة إذ لا يجوز أن يخطبها سالم لنفسه دون وجود أهله وسمع سالم هذا الكلام فطار من الفرح ووعد الحاج بإحضار أبيه وأعمامه وأهله لكي يخطب فاطمة فأمهله الحاج أسبوعاً يستطيع به الذهاب إلى قريته وإحضار أهله ومن ثم العودة بهم، توجه سالم من فوره إلى قريته البعيدة عن منطقتنا وعاد بعد مضي خمسة أيام يرافقه والده وأعمامه كالعادة يريدون تشريفه أمام والد زوجته المرتقب، استقبلهم الحاج حسين بالترحاب وأقام على شرف قدومهم وليمة كانت بها نهايتهم جميعاً فلم يُبقي على أحد منهم، ذُبحوا جميعهم.

3 comments:

  1. شرف الشرق
    أحمد النافع : المهندس والمغترب والصديق الوفي والانسان الاجتماعي ليسر تواصله مع الناس حتي وان كان غريبا والمرشد السياحي للقراء والناقل لروح الشرق والطارح لقضايا اجتماعية عدة لنضيف اليه سمة اخري عبر هذا الجزء وهو الباحث عن الحقيقة وذو الحسّ البوليسي ...افليس فعلا نافع ....وبالتالي يتطابق الاسم علي المسمي ...كيف لا ووالد جميل لم يجد غيره للوقوف مع ابنه في محنته بل وكأن الوالد واثقا من قدومه بالرغم ان معرفته كانت سماعا اي فقط عبر رسائل ابنه ...فاذا حدس الوالد لم يخب فها هو احمد يلبي نداء الرسالة مع انها لم ترد من جميل ولو نعود للجزء الاول ونتذكر قوله عند فضه الرسالة حين قال :"..هذا ليس خط جميل .."ورغم ذلك اسر عالي مصر دون حتي ان يعلم موضوع الرسالة ....لتبدأ رحلته التي غاصت به في العمق المصري...فكيف لاح لنا هذا العمق ؟
    بعيدا عن المدن وتعقيداتها يتسرب احمد داخل شريان المجتمع المصري بشقيه المديني والريفي لنكتشف خصوصيات هذه المجتمع او الروح الاصيلة للمواطن المصري عامة .حيث يحافظ علي عفويته وتلقائيته وبساطته وكرمه بالضيف الي حد الايثار وهذا يبرز في مشهدين :داخل بيت والد جميل وايضا في قرية الصعيد ...وكأن الناس تستمد طيبتها وانفتاحها من الطبيعة والالتصاق بالارض وهذا ينعكس حتي علي مساكنهم .فكأن الكاتب يضع لنا مقارنة بين روح المدينة وروح الريف عبر النسيج العمراني حيث الانغلاق والبيوت التي تضم العائلة النواة فقط والعلاقات الجافة والشبه الرسمية بين الناس الي الدور الشاسعة والمفتوحة علي الطبيعة في الارياف وايضا العائلة الممتدة (الجد والاب والاحفاد).
    كما يقارن الكاتب بين السلوكين ونظرة كليهما للحياة حيث التعقيدات في المدن وطغيان النظرة المادية الي البساطة والقناعة والتزهد (يمكن لنا تبيان ذلك من خلال وصف الكاتب لبيت اب محمد بالعمارة وبيت والد جميل وايضا بيت والد سليمان بقرية الصعيد )وايضا روح التعاون والرغبة في مساعدة من يستنجد بهم دون مقابل او مقايضة ولو نعود بالصورة الي ما انفقه الكاتب علي النادل والشرطي وسائق التاكسي من اجل انجاد صديقه سنقف علي الفرق بين السلوكين .كما تغلب روح التدين حيث عرج بنا الكاتب علي طقوس الصلاة بمسجد القرية وحلقة الدروس به .

    ReplyDelete
  2. ويكشف لنا مدي ارتباط وتشبث هؤلاء بالارض التي تشكل عزوتهم وقوتهم وايضا عرضهم وهذا من الوفاء بمكان ...وربما توقف الكاتب كثيرا علي معني العرض والشرف مرتين ليبين مدي ترسخ هذه القيمة وتشبث اهل الريف بها كتمسكهم بالارض .فجميل وسليل عائلة ريفية متهم بقتل زوجته دفاعا عن شرفه واهل القرية يتلون علي احمد قصة الثأر للشرف حتي بمجرد الشك لنعرف مدي تأصل هذا المعني وان القانون المدني في هذه الحالة غير معترف به بل الثأر والقصاص وبالتالي تتلاشي سلطة الدولة والقانون في هذه المسائل وربما موقف سعاد وشرحها لطريقة عمل جهاز الشرطة بقولها خاصة في مثل هذه المناطق يؤكد استنتاجنا .حيث يعتبرون الشرف يسترد بطريقتهم وليس بالقانون . وكأن الكاتب يقول :بالرغم من ان هذه المنطقة السياحية والمفتوحة علي السائحين القادمين من الغرب ,بقيت عصية عن الانفتاح في عديد المسائل وان هذا التوافد السياحي لم يستطع التأثير في سلوكيات الناس . بل وكأن غموض هذه القري وسحرها من غموض اثارها وحضارتها بل وكأنها هي من تغري السياح لاكتشافها لانها مختلفة عما الفوه مقابل غياب تأثرهم او انبهارهم او تقليدهم لهؤلاء الوافدين وبالتالي وكان الكاتب يقول ان هؤلاء هم حاملي هوية الاوطان وتراثها واصالتها بل وذاكرتها.اوليست القري هي متحف الذاكرة الشعبية .
    بعكس المدن التي انسابت في شريان التحولات الاقتصادية والاجتماعية والسلوكية ايضا .
    لكن اوليست هذه العقيدة "عقيدة الثأر للشرف " تكون ايضا جنت علي جميل او لنقل كان جميل ضحيتها .كيف ؟
    من خلال وصف الكاتب له في السجن لدرجة الانكسار مما أثر علي احمد الذي عجز عن الصمود امام منظر جميل في السجن .هذا السجن الذي ترائي لنا سجنان : سجن مادي وسجن معنوي بل يكون للثاني اكثر ثقل من الاول خاصة متي شعر المرىء بالظلم .وكأن جميل ضحية ظلمات عدة :ظلم الغربة ,ظلم الزوجة ,ظلم النفس التي سارت عبدا للمادة لدرجة الاعتكاف 5 سنوات متتالية ,ظلم الوحدة ,ظلم القانون له .وهنا نتوقف عندة قضية هامة يطرحها الكاتب وهي : فشل المنظومة القانونية في البلدان العربية التي ينقصها الدقة والخبرة وربما ايضا الآليات بل كلّ همها هي سرعة اغلاق الملفات خاصة اذا كانت شائكة كما قضية جميل .كما ان الكاتب ينقد غياب المهنية والحرفية والتي قد تؤدي ببريىء لحبل المشنقة .

    ReplyDelete
  3. والعامل الاخر والذي جاء ذكره تلميحا لا تصريحا هي تضحية الحكومات وعبر قوانينها بمواطنيها من اجل مصالح مادية وهذا جاء علي لسان سعاد "انها منطقة سياحية ولذلك يسارعون بلملمة الموضوع "....من اجل تسويق صورة للخارج عكس ما هو واقع في الداخل لذلك تصبح قيمة المواطنين محل مقايضة بل لنقل بخسة .فهل يشعر العربي فعلا بمواطنته في بلده التي تعجل القوانين بتحديد مصيره من اجل الحفاظ علي تلك الصورة التسويقية .ألهذه الدرجة ينتهك المواطن ؟
    لذا كان الكاتب بارعا ومؤثرا جدا في نقل صورة جميل في السجن .تلك القلاع التي تفوح منها رائحة العفونة وكانه عقاب قبل الحكم .انها فعلا صورة السجون العربية التي يموت فيها السجين مرات عدة في اليوم الواحد .أليست هذه مرآة عاكسة لعفونة أنظمة برمتها تنتهك حقوق المواطن .
    فبين صورة الفنادق الفخمة والتي شيدت للسياح والاجانب وهي مصدر اثراء لاصحاب رؤوس الاموال ,شيدت السجون للمواطنين اصيلي البلاد .....اننا نسيح بين عالمين متناقضين ....أهذا ما جعل جميل يكاد يجنح للعودة لارض الوطن ....أهذا هو الامن والاطمئنان الذي ينشده ...فايهما اقسي عليه غربته في الكويت ام غربته داخل وطنه ....فهل حياته برمتها غربة ....وهل بدات غربته حين فارق قريته وطلق بساطته وروحه القانعة .....؟؟؟؟
    ان الكاتب يأخذنا بين عوالم عدة داخل المجتمع الواحد وكانه يمسك بمشرط ليحلل ظواهر وقضايا دخيلة علي روح المجتمع ...فكأن المدينة زيفها والقرية قلبها وجوهرها النقي والنابض بمعني الحياة...
    انها حيوات داخل حياة واحدة ...أليس ما ينقله الينا هي مراوحة بين الطارىء والاصيل ...بين اللب والقشور....فهل كل هذه المتغيرات سببها المادة وطغيان الحياة المادية التي مدت الناس باقنعة اجتماعية
    هذه الاقنعة المصطنعة والتي تخفي التشوهات ليس اولها المساحيق وليس آخرها اقنعة سميرة من الطيبة والتودد لجارتها سلوي لدرجة الافتتان بها وتسمية ابنتها علي اسمها ....وكأن الكاتب يقول لنا ان الاقنعة اي كانت هي خادعة وهي لا تعكس البواطن فعلي المرىء ان لايغتر بها بل يبحث عن الجوهر او عليه البحث والنفاد اليه كما يفعل هو في رحلته الي قرية الصعيد وانسجامه السريع مع بيئتها ...وكأنه يقول هنا الحياة الطبيعية بلا مساحيق او رتوش او اقنعة اوليسوا هؤلاء ابناء الارض والطبيعة فكيف لايكونون كذلك ؟
    انها رحلة ليست فقط من اجل البحث عن الحقيقة ولكنها ايضا رحلة داخل روح الشرق وقلبه وذاكرته وسحره ومفاهيمه ....انه الوقوف علي شرف الشرق وعذريته ؟
    بين الحوار والسرد والوصف وروح والنثر والشعر معا يصطحبنا احمد في مغامرته بل هي مغامرة الانسان في هذه الحياة باحثا عن الحقيقة فهل يبلغها فنبلغها معه ؟ نتابع بشوق واستمتاع ..شكرا حكيم

    ReplyDelete