Thursday, July 21, 2011

الثقافة العربية الماضي والحاضر

الثقافة العربية - ماضي وحاضر
"اقرأ باسم ربك الذي خلق ، خلق الإنسان من علق ، اقرأ وربك الأكرم ، الذي علم بالقلم ، علم الإنسان ما لم يعلم" (سورة العلق)
كان هذا النص قاعدة الإصلاح الأولى التي صنع النبي صلى الله عليه وسلم بها نواة مجتمع حضاري حوَّل مجرى التاريخ في منطقة لا تمتلك أنموذجاً للحضارة .

وفي واقعنا المعاصر ثمة انفصام بين هويتنا وثقافتنا يحكم مسبقاً على مشاريعنا بالعقم، فالوطن العربي تمتلك شعوبه هوية تختلف عن هوية الشعوب الأخرى، ولا يمكن بحال أن تتفاعل مع ثقافتها، بل تنبهت مؤخراً إلى الغزو الثقافي الذي رافق الغزو الإعلامي وأصبح موضوع بحث ونقاش. 

يطرح هذا في أوساط المؤسسات الثقافية التي تقف حيرى أمام فشلها في الرقي بثقافة الشعوب وتنميتها .
إن الجدلية بين ثقافة المجتمع وقيمه لا يمكن أن تنفصم ، وكل تنمية للثقافة لا تنطلق من قيم المجتمع الذي تطرح فيه هي عقيمة ، ومن ثم فإن الشعب العربي لا يمكن أن يتفاعل مع ثقافات تتنافى مع قيمه وإن سميت ثقافة عربية.
ولا تعني أصالة الثقافة إهمال ثقافة الآخر وعدم الاطلاع عليها والإفادة منها، كما لا تعني ثقافة دينية بالمعنى الكهنوتي، وأيضاً ليست نشر العلوم الشرعية التخصصية التي تدرس في المعاهد كما هي عليه، بل تعني العودة إلى الأصالة منهجاً وقيماً ومصدراً في تنمية ثقافة المجتمع أيا كان اتجاهها أدباً أو فكراً أو فناً.


والثقافة العربية ليست ثقافة مستوردة، ولا مترجمة، ولا ملفقة، ولا منغلقة، بل هي ثقافة تعتمد على الإبداع الذي ينبع من التأمل والنظر في الكون، ولا حدود لهذا الإبداع فأفقه مفتوح.


الثقافة العربية تُعد مِنْ أغنى الثقافات العالمية وأهمها، فبعد ترسُّخ جذورها وتكامل متونها وتعدد فنونها في الجاهلية قبل الإسلام لغة مُشرِقة حُكماً و خُطباً، أمثالاً و شِعراً تجلت فيه العبقريةُ العربية وكان صورة لحياةِ العرب ومرآة لتفكيرهم ومشاعرهم ومسرحاً لخيالهم الخصب، تنزّل القرآن الكريم على رسول الله صلى الله عليه وسلم باللغةِ العربية فأغناها من المعاني السامية ويسر لها سبل الانتشار السريع في مشارق الأرض ومغاربها، كيف لا وهي لغة الحكم والإسلام الذي توطدت أركانه في العديد من البلاد التي تم فتحها من قبل العرب المسلمين، وخلال تلك الفترة التي إمتدت زُهاء 125 عاماً أقبلوا أبان الخلافة العباسية على نقل علوم الأقدمين، من معظم الحضارات التي كانت سائدة وقاموا بأكبر عملية ترجمة من العلوم اليونانية والهندية والفارسية فقاموا بدراسة علوم وآداب القدماء والحضارات الأخرى واضافوا إليها الكثير ومنها انطلقوا في آفاق العالم مستكشفين ومبدعين إلى جانب عطائهم المستمر في الفقه والأدب وفنون الكلام المتنوع ما بين شعر ونثر وخطابة وحِكم، وأبان تلك المسيرة الطويلة تعرضت الثقافة العربية لسهام الشعوبيون، الذين حاولوا الإساءة إلى اللغة العربية وإقصاءها عن التدريس وعن مجالات الحياة المختلفة بحجج واهية، ثم حاولوا إدخال مفاهيم مزيفة في الثقافة العربية، من ثم جاءت ثقافة العولمة لا لتزاحم الثقافة العربية في عقر دارها كما تزاحم ثقافات مختلف شعوب العالم بل لتقصيها عن عرشها المكلل بالمجد التليد.


مكونات الثقافة العربية
إن الثقافة العربية تتكون من مكونين أساسين : اللغة العربية والإسلام ومن هنا إصرار بعضهم على تسميتها: الثقافة العربية الإسلامية
إن اللغة هي وعاء العلوم جميعاً، وأداة الإفهام والتعبير العلمي، هي وسيلة التأثير في العقل والشعور بأدبها ونثرها وشعرها وحكمها وأمثالها وقصصها وأساطيرها.
ومن هنا فإن كل من يحارب اللغة العربية يحارب بالنتيجة الثقافة العربية، وكان من ديدن أعداء هذه الأمة إضعاف الفصحى، وإشاعة العامية، وإعلاء اللغة الأجنبية على اللغة العربية، وإلغاء الحرف العربي في الكتابة، وإحلال الحرف اللاتيني محله.
أما الدين فكل الثقافات مدينة للأديان في تكوينها وتوجيهها، سواء أكان هذا الدين سماوياً أم وضعياً كما هو واضح في ثقافات الشرق والغرب، لاسيما الإسلام الذي له تأثيره العميق والشامل في ثقافة أمتنا العربية عن طريق عقائده الإيمانية، وشعائره التعبدية، وقيمه الخلقية، وأحكامه التشريعية، وآدابه العملية، ومفاهيمه النظرية، حتى إنه يُعد مكوناً مهماً لثقافة غير المسلم الذي يعيش في المجتمع المسلم، وهو ينضح على تفكيره ووجدانه وعلاقاته، شَعرَ أم لم يَشعُر ، مما دعا الزعيم السياسي مكرم عبيد في مصر إلى القول: أنا نصراني ديناً، مسلم وطناً .

ويأتي السؤال ـ الإشكالية:  
كيف تكون العلاقة بيننا وبين هذا الوافد الجديد؟ 
كيف نوازن بين قديمنا وحديثهم؟ 
بين تراثنا الأصيل ومعاصرهم الدخيل؟ 
هل العلاقة بين التراث القديم والوافد الحديث ـ أو بين الأصالة والمعاصرة ـ هي علاقة التضاد والتناقض؟ فلا أمل في الجمع بينهما، أو هي علاقة التنوع والتكامل وهنا يمكن الجمع بينهما؟

السؤال خطير، والجواب مهم، ولاسيما في هذه المرحلة التي تسعى فيها أمتنا لتحقيق ذاتها، بعد أن اكتشفت ذاتها التي غابت أو غُيبت عنها زمناً، وقد أجاب عنه أناس بافتراض التناقض بين الأمرين، فاختار فريق التراث والأصالة، وعاشوا غرباء عن العالم والزمان واختار آخرون العصر والحداثة، وعاشوا غرباء عن الأهل والمكان، وبقي آخرون مترددين بين أولئك وهؤلاء .

هل من تعارض بين الثقافة العربية والمعاصرة؟
إن الموقف الصحيح هو الذي يُتخذ بعد الدراسة المتأنية لكل من الأمرين المعروضين، وقد سقط الكثير في هذا الخطأ الشنيع، حين تسرع في الجواب بغير علم عن هذا السؤال.
ويحكي لنا الدكتور زكي نجيب محمود في كتابه " تجديد الفكر العربي " قصة تسرعه حين واجه السؤال عن طريق للفكر العربي المعاصر ، يضمن له أن يكون عربياً حقاً (أي أصيلاً) ومعاصراً حقاً.
"قد يبدو للوهلة الأولى أن ثمة تناقضاَ أو ما يشبه التناقض بين الحدين لأنه إذا كان عربياً صحيحاً اقتضى ذلك منه أن يغوص في تراث العرب الأقدمين حتى لا يدع مجالاً لجديد ـ وإن من أبناء الأمة العربية اليوم من غاصوا هذا الغوص الذي لم يبق لهم من عصرهم ذرَة هواء يتنفسونها ـ وأما إذا كان معاصراً صحيحاً، كان محتوما عليه أن يغرق إلى أذنيه في هذا العصر بعلومه وآدابه وفنونه وطرائق عيشه، حتى لا تبقى أمامه بقية ينفقها في استعادة شيء من ثقافة العرب الأقدمين .
نعم قد يبدو للوهلة الأولى أن بين العربية والمعاصرة تناقضاً أو ما يشبه التناقض، ولذلك يجب السؤال الذي يلتمس طريقاً يجمع الطرفين في مركّب واحد، وكأنما هو سؤال يطلب أن تجتمع مع الماء جذوة نارة، فهل بين الطرفين مثل هذا التناقض حقاً؟ أو أن ثمة طريقاً يجمع بينهما، ذلك هو السؤال
" ويكمل الدكتور زكي قائلاً : "لقد تعرضت للسؤال منذ أمد بعيد، ولكني كنت إزاءه من المتعجلين الذين يسارعون بجواب قبل أن يفحصوه ويمحصوه ليزيلوا منه ما يتناقض من عناصره، فبدأت بتعصب شديد لإجابة تقول: إنه لا أمل في حياة فكرية معاصرة إلا إذا بترنا التراث بتراً، وعشنا مع من يعيشون في عصرنا علماً وحضارة، ووجهة نظر إلى الإنسان والعالم، بل إني تمنيت عندئذ أن نأكل كما يأكلون، ونجدّ كما يجدُون، ونلعب كما يلعبون، ونكتب من اليسار إلى اليمين كما يكتبون !! على ظن مني آنئذ أن الحضارة وحدة لا تتجزأ، فإما أن نقبلها من أصحابها ـ وأصحابها اليوم هم أبناء أوربا وأمريكا بلا نزاع ـ وإما أن نرفضها، وليس في الأمر خيار بحيث ننتقي جانباً ونترك جانباً، كما دعا إلى ذلك الداعون إلى الإعتدال، بدأت بتعصب شديد لهذه الإجابة السهلة، وربما كان دافعي الخبيء إليها هو إلمامي بشيء من ثقافة أوربا وأمريكا، وجهلي بالتراث العربي جهلاً كاد أن يكون تاماً ، والناس ـ كما قيل بحق ـ أعداء ما جهلوا، ثم تغيرت وقفتي مع تطور الحركة القومية، فما دام عدونا الألدُ هو نفسه صاحب الحضارة التي توصف بأنها معاصرة، فلا مناص من نبذه ونبذها معاً، وأخذت أنظر نظرة التعاطف مع الداعين إلى طابع ثقافي عربي خالص، يحفظ لنا سماتنا ويردُ عنا ما عساه أن يجرفنا في تياره فإذا نحن خبر من أخبار التاريخ، مضى زمانه ولم يبق منه إلا ذكراه" . ويتابع الدكتور قوله : "ولولا رجوعي إلى ثقافتي العربية لدخلت القبر بلا رأس"
وُجِدت منذ عصر النهضة ـ وتوجد الآن ـ في المجتمع العربي أقلية تدعو تصريحاً أو تلويحاً إلى تقليد الغرب جملة وتفصيلا، بهدف الخروج من وضعنا البائس، إن بعضهم يفسر هذا الميل بالقانون الاجتماعي الذي ذكره ابن خلدون، القاضي بأن المغلوب مجبول على تقليد الغالب في كل شيء ، إن أمتنا العربية على الصعيد الثقافي لا تبدأ من العدم بل هي تستند إلى إرث ثقافي غني باذخ، وما يشغلها الآن هو: 

كيف توائم بين هذا التراث وبين متطلبات العصر الذي نعيش فيه؟
هل تتمسك بالثقافة المتوارثة التي ألفتها أم تهجرها إلى ثقافة مستوردة ؟ خطران يتهددانها لأنها إن تمسكت بالقديم مكتفية به عاشت خارج الزمان، وإن تلبست الجديد بلا روية عاشت خارج المكان، إن هذه المشكلة قد شغلت العديد من المفكرين والباحثين، ولكن من الجلي أن الثقافة ليست في أكثر مكوناتها صيغة جامدة لا تتغير، بل هي نتاج بشري ينمو ويزداد عمقاً واتساعاً بجهود البشر، فالثقافة العربية في عصر المعري ببلاد الشام وعصر ابن رشد في الأندلس ليست الثقافة العربية في العصر الجاهلي أو صدر الإسلام أو العصر الأموي، إننا نستطيع أن نقدر للتراث قيمته ودوره في تكويننا النفسي والاجتماعي ونأخذ منه ما تقتضيه حاجتنا اليوم، وأن نقبل على الثقافة المعاصرة فنقتبس من ثقافات الآخرين ما تحتاج إليه ثقافتنا لتحقق معاصرتها ومواكبة الثقافات الأخرى، ولاسيما في ميدان العلوم والتقانة والتقنية والعلوم المستحدثة في السنوات الخمسين الأخيرة، فالمواءمة بين الموروث والجديد يحفظ للأمة هويتها ويجدد طاقتها على النماء والتطور .
أجل إن الثقافة العربية هي إحدى الثقافات الكبرى في تاريخ البشرية، وهي مؤهلة اليوم لاستئناف دورها حاضنة لقيم الخير والعدالة والمساواة والمحبة والسلام ونابذة كل ما يشوه الإنسان من صور الشر والجور والعنصرية والظلم، وذلك من خلال صيغة مركبة متحركة متطورة لا تتنكر للأمس الغابر ولا تغمض العين عن متطلبات اليوم والغد .
هكذا يوجد على الساحة العربية تياران يتفقان في الهدف، محو التخلف، ويفترقان في الأسلوب : الأصالة بالمحافظة على الموروث، أم النبوغ في إطار التراث الإنساني المشترك.

تُرى مَنْ مِنَ الفريقين معه الحق مادام الهدف واحد والإسلوب مختلف؟


د. فرحان السليم: الثقافة العربية بين الأصالة والمعاصرة (1)
د. زكي نجيب محفوظ: تجديد الفكر العربي، القاهرة، دار الشروق، ص12ـ 14

No comments:

Post a Comment