Saturday, November 5, 2011

غربـــــــة - جزء ثامن

غربة - جزء ثامن

في هذه الأثناء كان أحمد الذي توجه سابقاً إلى غرفته بعدما طلب من سعاد إيقاظه في تمام الخامسة عصراً حاول النوم كثيراً ولكن التفكير بالمغامرة التي هو بصددها منعه حتى من إغماض عينيه لبضع ثواني فجلس يفكر بالأمر مليا وعندها قرر بأن يتوجه من فوره إلى قرية الحاج حسين، حاول أكثر من مرة الإتصال بسعاد لكنه لم يجدها بالغرفة فترك لها رسالة لدى موظف الاستقبال وركب سيارته متوجهاً إلى القرية التي ما أن وصلها حتى اختار مكان جيداً لإخفاء سيارته بعيداً عن الأنظار والتف حول المنزل يدرس مداخله ومخارجه والدروب الصغيرة المؤدية إليه وعاد إلى سيارته حاملاً بعض الأغصان والأعشاب ليُحكم إخفاء سيارته عن الأعين وجلس في مكان يُشرف على القرية الهادئة ينظر للأطفال وهم يلعبون هنا وهناك إلى أن ابتدأ الظلام يخيم على الأرجاء، توجه من فوره إلى شجرة رصدها سابقاً تشرف على المنطقة التي تدور بالبيت القديم عالية أغصانها كبيرة كثيفة الأوراق وقرر أن تكون له مرصدا ومكان يستطيع أن يكتشف منه أي تحركات مريبة، وفي طريقه لاعتلاء الشجرة رأى عن بعد منصور الفلاح وهو يسحب بقرته سعاد ويعود بها إلى حظيرة المنزل "جميلة فعلا هذه البقرة" قالها وهو يضحك، كان المنظر من أعلى الشجرة جميلاً ويستطيع من خلاله أن يكشف جميع النوافذ المطلة على القرية والتي أخبرت عنها الفتيات سعاد لذا مدد جسده مسترخيا على غصن عريض قوي من أغصان الشجرة الفارعة وهو يضع في أذنه سماعته المكبرة للصوت وأخرج قطعة لبان يسلي بها فمه
امتدت الدقائق طويلة مملة إلا من بعض أصوات لحيوانات الحقول الصغيرة واعتراضات الطيور التي غزا أحمد منطقتها بين الأغصان إلى أن سمع صوتا لم يألفه قبل ذلك، تهشم أعشاب وتكسر الغصون صغيرة متيبسة على أرضية الحقل المجاور التفت مسرعاً إلى مصدر الصوت ووضع منظاره المكبر على عينيه يحاول معرفة وتحديد مصدر هذه الأصوات الجديدة الواضحة وإذ به يرى خيال رجل وراء الأعشاب الطويلة يحاول الاختباء بعيداً عن العيون.
استلمت سعاد رسالة أحمد وفضتها بسرعة محاولة معرفة ما الذي جرى لأحمد الذي أخبرها برسالته بأنه لم يستطع النوم وأنه حاول التكلم معها ولكنه لم يجدها فأضطر إلى الذهاب مبكراً في طريقه إلى قرية الحاج حسين لذا يجب عليها أن لا تقلق عليه ولتنتظر أخباره عندما يعود، تساءلت سعاد في قرارة نفسها هل كل ما نفعله الآن صحيح وهل سيستطيع أخاها مساعدة أحمد وتمنت لو أنها قد ذهبت مع أحمد ولكنها سرعان ما أبعدت هذه الفكرة عن رأسها عندما تذكرت الجريمة المخيفة التي حدثت هناك وجلست بانتظار أية أخبار والقلق يبدو على محياها، ولكن ماذا لو أن أحمد وصل هناك قبل أخيها وهذا بالطبع ما حصل لأنه توجه من هنا قبله بساعتين وقفت سعاد متجهة صوب مكتب تأجير السيارات ومن هناك انطلقت إلى غرفتها وبدلت ملابسها بملابس تناسب ما هي بصدده وانطلقت في طريق القرية
أما عصام ذلك الشاب الجريء فقد ارتسمت على وجهه إمارات البأس كيف لا وهو الذي يتباهى دوما بعضلاته المفتولة أمام أقرانه ها هو الآن أمام مغامرة ربما تفتح أمامه أبواب المجد والشهرة، توجه من فوره إلى سوق الأقصر بوسط المدينة بعدما ترك الفندق واعداً سعاد بمساعدة أحمد وإنتشاله من يد القتلة و ... توقف أمام محل لبيع النظارات وإشترى منظار رخيصاً بعدما تبين له أن الأسعار فاحشة وأتم شراء ما طلب منه ومن ثم توجه مسرعاً إلى موقف سيارات الأجرة بعدما تبين له أن الوقت يمضي بسرعة شديدة عندما وصل عصام إلى المكان المحدد الذي وصفته له سعاد كانت الشمس بطريقها إلى الغروب وقرصها الأحمر كان في طريقه إلى الزوال ففضل أن ينتظر متخفياً وراء شجرة مستطلعاً المكان الذي يقصده وعندما وجد البيت القديم وعرف بأنه ضالته المنشودة من خلال الحالة المتردية التي هو عليها كانت الشمس قد أتمت غروبها لذا تقدم بخطواتٍ جريئة إلى المكان الذي يقصده دون أن ينتبه لخطوات أقدامه التي كانت تدوس على ما تصادفه من القش والأغصان الصغيرة الهشة، واستمر بطريقه هذا متوجهاً صوب المنزل وهو يتساءل عن مكان الاستاذ أحمد وإذ بشيء ينقض عليه وأخذ يتلقى اللكمات تلي اللكمات على وجهه فوقع مغمياً عليه
بنفس الوقت الذي توجهت به سعاد إلى القرية مسرعة كان أحمد يحاول جاهداً أن يرصد حركات هذا الرجل المختبئ وراء الأشجار ولكنه لم يكن يتوقع بأنه سوف ينهي ما جاء من أجله بهذه السرعة، استغرب أحمد وهو ينظر للشبح متسائلاً لماذا هذا الرجل يختبئ وراء هذه الأشجار وممن يختبئ هل رآه ولهذا هو يتابع خطواته ولكن الرجل لا ينظر ناحيته بل أنظاره تتجه إلى البيت من هو يا تُرى؟
لم يجد أحمد بداً من أن يسارع للانقضاض على هذا الشبح عندما أصبح عند الشجرة التي يختبئ فوقها مباشرة أخذ يكيل له اللكمات تلي اللكمات حتى غاب الرجل الغريب عن الوعي فأخرج مصباحه اليدوي ووجهه إلى الرجل الغريب وإذ به يرى أمامه عصام أخو سعاد !
- عصام ! ... ماذا تفعل هنا عصام أجبني؟

لكن عصام لم يجبه كما كان يأمل فقد كان غائباً عن الوعي من جراء الضربات القوية التي أنهال أحمد بها على رأسه ووجهه، احتار أحمد بما يفعله خاصة وأنه لا يعلم ما الذي أتى بعصام إلى هذه المنطقة، وأخذ يفكر متسائلاً إن كان عصام له ضلع بهذه الجريمة ولكن عصام ...
أخذ أحمد يضيء يدي عصام وذراعيه باحثا عن أية جروح تشبه تلك التي أعلمته بها سلوى ابنة العم أبو محمد لكنه لم يرى أي شيء، ومن ثم حمل عصام ووضعه داخل سيارته وأزال الأغصان التي غطى بها سيارته وأنطلق في طريقه صوب الأقصر إلى الفندق.
ارتدت سعاد ملابس تناسب المكان الذي تتجه إليه و انطلقت بسيارتها تأكل الإسفلت مسرعة إلى قرية الحاج حسين وكانت طوال الطريق تفكر بما سيجري لأخيها لو أن أحمد رآه وحسبه بأنه القاتل وعندما وصلت إلى المنعطف المؤدي إلى القرية أوقفت سيارتها و انطلقت على أقدامها وبيدها مصباحا تضيء به موطئ قدماها وتنادي بين الفينة والأخرى على عصام بصوت خافت ولكنها لم ترى أي شيء فليس هناك دلائل على وجود عصام أو حتى أحمد بهذه المنطقة فقررت أن تقترب قليلا من البيت القديم وما أن أصبح البيت على مرأى من ناظريها حتى شاهدت على ضوء القمر منظراً أوقف شعر رأسها من الخوف وحبس أنفاسها أصيبت سعاد بالذعر الشديد عندما رأت من وراء البيت رجلاً يحمل رجل أخر على كتفيه ويضعه بداخل سيارة وينطلق به فتسمرت بمكانها خائفة تلعن الساعة التي فكرت بها بالقدوم إلى بيت الرعب هذا وها هي تشاهد القاتل يحمل ضحيته وهي لا تستطيع أن تفعل أي شيء، ولكن أين أحمد أين عصام أين مخبأهما.
فكرت سعاد بموقفها طويلاً ولكنها قررت أن تعود باكية من حيث جاءت ولكن ببطأ شديد خوفاً من أن يراها القتلة فتصبح هي الأخرى ضحية يكتب عنها بالصحف

طريق العودة بدا لسعاد وكأنه الليل بطوله لهذا عندما شاهدت سيارتها أسرعت تفتح بابها وتلقي بنفسها داخل السيارة و انطلقت إلى الطريق المؤدي للأقصر وعيناها تمتلئ بالدموع منتحبة من الخوف الذي لازمها كانت خائفة من أن تنظر بمرآة السيارة إلى الوراء جزعة من أن يلاحقها أحد إلى أن وصلت إلى الفندق ومن ثم إلى غرفتها فأغلقت عليها باب الغرفة وأسرعت إلى الشرفة تراقب سيارتها إن لاحقها أحد أم لا وبينما هي تراقب وإذ بها ترى سيارة أحمد متوقفة في ركن الموقف فأسرعت إلى الهاتف تتصل بغرفته
- ألو ... أحمد ... أحمد
- سعاد أين أنت؟
- بالغرفة ،، أحمد آهـ (وهي تبكي)
- ما بكِ ... تعالي بسرعة
- جريمة يا أحمد .... لا أعلم ما الذي حصل
- طيب ... لا شيء ... تعالي فقط
- ... أنا.. قادمة ... لكني خائفة
أسرعت سعاد إلى غرفة أحمد والدموع تملئ عيناها وما أن دخلت وشاهدت عصام يبتسم لها والرباط يحيط برأسه حتى أطلقت ضحكة ارتجت لها أرجاء الغرفة فيما دموعها متساقطة على خدها وأمسكت برأس أخيها قائلة وهي تحاول أن تمنع نفسها من الاستمرار بالضحك
- هل ما شاهدته هناك هو (ولم تستطع أن تكمل من شدة الضحك) الحمد لله
- ما بك يا سعاد، هل جننت؟
قصت سعاد على أحمد وأخيها ما حصل معها وكيف أنها أصيبت بالرعب والذعر عندما رأت منظرهما وكيف أنها لم تفكر ولو للحظة بأن يكونا هما اللذان رأتهما، ابتسم أحمد وهو يقص عليها ما حدث معه وكيف أنه اعتقد لوهلة من الزمن بأنه قد قبض على القاتل وحدثها بما جرى معه لحين اتصالها
ضحك عصام قائلاً:
- مع الألم الذي أشعر به وضحككما المتواصل فأنا أعتقد بأنكما مجنونين
- لما يا عصام (أجابه أحمد متسائلاً)
- يا أستاذ أحمد كيف تجرؤ أن تذهب لهذا المكان الموحش بالليل وأنت تعلم بأن القاتل هناك وربما مطلع على مكانك من مخبأ خفي
- لا .. أنا لا أعتقد بأن القاتل هناك
- إذن فلما أنت متواجد هناك؟ لقد احترت بأمركما
- لا يا عصام إن حل اللغز سوف يكون هناك أما القاتل فلا أعتقد، أتذكرين يا سعاد عندما قلت لك بأنه ليس من المعقول أن يترك القاتل ضحاياه بنفس المكان الذي يختبأ به أو يدل عليه
- نعم أذكر ذلك
- عندي إحساس غريب بأن الأضواء المتحركة ليلاً سوف يكون لها تأثير كبير على مجرى الأحداث، عصام كيف رأسك الآن؟
- أحسن خاصة بعد كمية الثلج التي وضعتها على رأسي
- لماذا ما الذي تفكر به يا أحمد؟
- أن أعود فأنا بشوق جامح لأن أعود أشعر بأن البيت يناديني لأن أكون هناك الآن
- وهل أستطيع مرافقتك يا أستاذ أحمد
- لا أدري، هل تشعر بتحسن
- نعم وسوف أتحسن أكثر بعد قليل
- حسناً إذن هيا بنا
- أريد الذهاب معكم
- لا يا سعاد هذه مخاطرة لا داع لها
- يجب أن أرافقكم
- إذا لم نعد في صباح الغد، أو على الأقل لم نتصل حتى التاسعة صباحاً فأذهبي لمركز الشرطة اسألي عن سليم .. أتذكرينه؟ أعلميه بكل ما حصل ولكن ليس قبل التاسعة اتفقنا
- أتعني بأنه يمكن أن يحصل لكم أي مكروه
- سعاد نحن نتوقع كل شيء والآن هيا بنا يا عصام

توجه عصام مع أحمد إلى السيارة التي انطلقت بهم في الطريق المؤدي للقرية في تمام الثامنة وأربعون دقيقة مساءاً

الغريمة

بينما جَلستْ سعاد تحتسي كوباً من الشاي وجدته على مائدة في غرفةِ أحمد خرجت إلى الشرفة وهي تراقب انطلاقهم بعيداً حتى اختفت أضواء السيارة بين تلآفيف الظلام الدامس وعادت إلى وسط الغرفة لا تدري ما تفعل وعندما فكرت بالعودة إلى غرفتها حانت منها التفاته إلى خزانة الملابس الخاصة بأحمد، فَتحت الخزانة مُجيلةً النظرَ بملابسهِ تُلامسُها بأنامِلها وتستنشِقُ عبيرها وإذ بعيناها تقعُ على حقيبتهِ اليدوية وفكرت بلحظة ضعفٍ منها بأن تفتحها علها تكتشفُ بداخلها مَنْ هي غريمتُها تساءلت طويلاً هل مِنَ المعقول أن لا يحملُ بين طياتِ أوراقه صورة لها أو حتى ورقة صغيرة يتكلم بها عن حبه لها، ولكن هل من الصحيح أن تفتح حقيبته ... أن تطلع على أسراره دون إذن منه لا ... لا يصح فلأذهبْ من هنا ... قالتها وأغلقت سعاد باب الخزانة متوجهةً إلى باب الغرفة وما أن خرجت من الغرفة وقبل أن تُغلقَ الباب حتى عادت إليها بسرعة وبريق التصميم بفتح الحقيبة يشع من عينيها فتحت باب خزانته وأخرجت الحقيبة بعدما أحكمت إغلاق باب الغرفة وجلست على السرير وبين يديها الحقيبة عالجت القفل فانفتح معها بكل سهولة جالت عيناها بين الأوراق الموجودة داخل الحقيبة تتفحصها ورقة ورقة قائلة:
- كلها أوراق عمل رسائل ولكن ماذا هناك، رزمة أوراق لماذا هو يربطها بهذا الرباط الحريري
فكت سعاد عقدة رباط الرزمة فوقع من بين الأوراق صورة شمسية لامرأة تبدو في أواخر العشرينيات حنطية اللون جميلة يشع من عينيها بريق الذكاء وعلى ثغرها بسمة رقيقة حالمة تفحصتها بدقة ثم وضعتها جانباً وهي تطالعها بين الفينة والأخرى وابتدأت تقلبُ الأوراق، رسائل حبٍ منها إليه تناديه بحبيبها إنها تحبه ولكن ما شعوره نحوها اختلست سعاد نظرات عديدة إلى الصورة بينما هي تقرأ رسائلها إلى أحمد
في هذه الأثناء كان الرجلين قد اقتربا من القرية وعندما أصبحا قريبين من مفترقِ الطرق انزلقَ أحمد بسيارته إلى الطريق الترابي الفرعي المؤدي للقرية وهو يُطفأ أنوار سيارته وتوجه ببطء شديد يساعده نور القمر إلى المخبأ الذي أعده سابقاً لسيارته، وعندما أصبحت السيارة في مأمنٍ من العيون ترجل منها يرافقه عصام وتناول بضعة أغصانٍ يغطي بها مقدمة السيارة ليكمل عملية إخفائها وعندما انتهيا من عملهما هذا اندسَ أحمد وسط الأشجارِ مُحدثاً عصام بما ينوي فعله
- عصام أنا سيكون مخبأي هناك فوقَ هذه الشجرة التي كنت أعتليها سابقاً وعليك البقاء في هذا المكان بين هذه الأعشاب الكثيفة ولتضع على أذنيك لاقط الصوت هذا وسأخبرك من مكاني إن رأيت أي شيء غريب
- لا أنا لدي لاقطُ صوتٍ يشابه ما معك ومعي منظار تركته هنا عندما تصارعتُ معك تحت الشجرة ها هو إنه يلمع تحت ضوء القمر
- حسناً فلأذهب أنا ولتعُد أنت لموقعك هذا ولا تغادره إلا عندما أبلغك بذلك
- تمام يا فندم (ضاربا يده برأسه كتحية عسكرية)
انطلق أحمد يتسلق الشجرة التي كان عليها من قبل بينما تناول عصام منظاره المكبر من تحت الشجرة وعاد إلى مكانه ينتظر ما يستجد من الأمور، جلس أحمد على الغصن الكبير وتناول منظاره بعدما وضع لاقط الصوت على أذنه يراقبُ نوافذ البيت لمدة دقائق وأخذ يُجيل النظر من نافذة لأخرى وظن لبُرهة من الزمن بأنه قد رأى شيئا ولكنه فضل التأكد من ذلك قبل إخبار عصام بهذا الأمر، أما بالنسبة لعصام فإنه وضع اللآقط على أذنه والمنظار على عينيه يراقب أحمد وعندما رآه يجيل النظر بنوافذ البيت اتجه بمنظاره إلى البيت ولكن إلى الجهة الأخرى فشبه له بأنه رأى دفة الباب المنزوي للبيت وكأنه يُغلق فأعاد النظر لعدة دقائق بعد أن أغلق عيناه مرات عديدة خوفاً من أن يكون ما رآه سراب أو انعكاس للضوء ولكنه لم يرى اي شيء جديد لذا وجه منظاره صوب أحمد ولكنه لم يرى أحمد في مكانه أدار منظاره في كل الاتجاهات ولكنه لم يجده فتحرك من مكانه يريد البحث عنه لكنه تذكر كلمات أحمد بأن لا تغادر مكانك إلا إذا أخبرتك أنا فعاد من فوره إلى مخبأه وسط الحشائش وقد إنتبه بأنه لم يكن يضع لاقط الصوت بالوضع الصحيح فأدار زر العمل وتأكد حين إذ بأن أحمد ربما أخبره بشيء معتقداً بأن لاقط الصوت خاصته يعمل، ولكن كأيام الجيش يجب عليه إطاعة الأوامر الصادرة إليه وأن لا يتحرك إلا بأمر من القائد لذا لزم مكانه مختبئاً لحين صدور أي أمر من أحمد

ظنَ أحمد بأنه يستوجب عليه أن يقترب من المنزل أكثر من ذلك فأنزلق من أعلى الشجرة متوجهاً بخطى رشيقة قرب البيت وجلس وظهره مواجهٌ للسور الخشبي يسترقُ السمعَ لدقائق طويلة لكنه لم يسمع أو يرى أي شيء غير عادي في المكان لذا قرر العودة لمكانه فوق الشجرة حيث أنها تكشف المكان برمته، مر أحمد وهو بطريق عودته بالبئر الذي أخبره الشيخ عنها وخُيل إليه أنه سيرى شبح فاطمة وهي تُلقي نفسها بجوفه فأصابته قشعريرة امتدت بجسده حتى شعر رأسه، تمالك أحمد أعصابه عائداً إلى مكانه فوق الشجرة وعندها سمع عصام وهو يحادثه من مخبأه
- أحمد هل رأيت شيء
- لا لكني أحببت أن أتأكد بأن كل شيء على ما يرام، هل رأيت أنت من مكانك أي شيء؟
- ظننت بأنني قد رأيت الباب الجانبي يفتح أو يغلق ولكني أظنها تخيلات
- أنا لم أرى أو أسمع شيء غير طبيعي (مسترخياً في مكانه)
وعندما بدأت تباشيرُ الصباح بالقدوم مع صياح الديكة في القرية، فكر أحمد بالعودة إلى الفندق خاصة وأن ساعات الفجر الأولى أجلت الظلام شيئاً فشيئاً، هبط من مرصده وذهب صوب مخبأ عصام الذي وجده نائماً يَضُم ذراعيه إلى صدره علامة شعوره بالبرد، أيقظه من نومه وتوجها إلى السيارة منطلقين في الطريق إلى الأقصر، أوصل أحمد عصام إلى منزله وتوجه بعد ذلك إلى الفندق
أما سعاد التي أخذت على عاتقها قراءة جميع الرسائل التي وجدتها لم تتوانى بعد أن إنتهت من قراءتها كلها أن تبحث عن أية رسائل أخرى أو أوراق تستطيع من خلالها معرفة مشاعر أحمد تجاه غريمتها، فأعادت رُزمة الأوراق كما كانت عندما يئست من العثور على بُغيتها، كان هناك بعض الكتب الملقاة على المكتبة الصغيرة قرب السرير فأخذت تتصفحها وفوجئت بأن الكتاب ما هو إلا مجموعة قصائد ورسائل كتبها أحمد فألقت بجسدها على السرير تقرأ وتقرأ إلى أن تثاقلت عينيها ونامت دون أن تشعر

توجه أحمد إلى غرفته بعدما أخذ المفتاح من موظف الاستقبال وعرف منه بأنه لا يوجد رسائل له وما أن فتح الباب حتى فوجئ بسعاد نائمة على سريره وبين يديها كتاب أشعاره جلس على الكرسي المقابل للشرفة ينظر إلى الأفق البعيد الذي يحمل بطياته فجر اليوم الجديد والنوم يداعب عينيه
- أحمد ..... أحمد
انتفض أحمد مستيقظاً بعدما غلب النعاس عيناه فنام على كرسيه، وعندما إستيقظت سعاد من نومها فوجئت بوجود أحمد نائماً على المقعد، وتذكرت ما صنعته في ليلة الأمس فشعرت بخطئها وأحست بالذنب يثقل كاهلها خاصة وأنه وثق بها لكنها خانة أمانته واطلعت دون إذن منه على أسراره الشخصية فراحت تبكي بصمت إلى أن قررت البوح له بما صدر منها كي يرتاح معها ضميرها الذي آلمها كثيراً فنادته لعدة مرات لكنه كان مستغرقاً بالنوم بعد ليلة ترقب طويلة فهزت ساعده وهي تناديه، فانتبه على صوتها ورآها بهذه الحالة والدموع تملأ عينيها فأمسك بيدها
- سعاد ما بك .. لماذا تبكين ما الذي جرى؟
- أحمد سامحني (منتحبة)
- ماذا هناك .. دعي البكاء .. أخبريني ما بك؟
- لقد .... ليلة الأمس أخطأت بحقك
- ماذا تقصدين ..... كيف أفصحي يا سعاد (وهو يجلسها على المقعد) أشربي الماء خذي (وهو يناولها كوب الماء الذي تجرعته على فترات) ليلة أمس بعدما غادرتما أنت وعصام رأيت نفسي وحيدة فـ …
وأخبرته سعاد بما صدر منها وبأنها عندما صحت من النوم عرفت كم كانت هي مخطئة وأن ضميرها يعذبها كثيراً
- حسناً ألهذا أنت متضايقة، وتبكين
- حسبتك ستغضب مني
- نعم أنا غاضب ولكن ..... ماذا يفيد الغضب خاصة بعدما عرفت عني كل شيء، أسراري كلها
- أحمد أنا لم أقصد ولكن .... أنا آسفة صدقني آسفة ... حدث ذلك كله بلحظة ضعف مني
- ولكن ما الذي يهمك من معرفة هذه الأسرار
- لا تثقل علي ... أرجوك .. كنت أظن بأنك ستفهمني ... خاصة وأنك قد أحببتَ من قبل
- لا لم أفهم .... وما علاقة حبي بالموضوع
- أعني أنا ... أنا أشعر بأنني أحبك يا أحمد

5 comments:

  1. This comment has been removed by a blog administrator.

    ReplyDelete
  2. روح المغامرة
    لانعرف ان كان احمد هو من بث في سعاد واخيها روح المغامرة ايضا بل المخاطرة لدرجة انه غادر الفندق قبل الموعد الذي قررّه وهل يكون المرء مشبع بالوفاء لدرجة ان يخاطر بحياته وهو الغريب عن الديار من اجل بلوغ الحقيقة بل نراه يستعجل ذلك، فأحمد الغريب والصديق الوفي وكأنه يعيد للقيم الانسانية روحها بل وكأنه يحييها من جديد كيف؟
    نرى ذلك اولا من خلال التضحيات الجسام التي يقوم بها ماديا وادبيا – ثانيا- الاقتطاع من وقت عمله الاصلي حيث مددّ من اقامته في ارض الكنانة – ثالثا- آلية تحركه والخطط التي استنبطها بل وحتي الاسئلة والتدقيق في ابسط التفاصيل تعكس الي اي مدي استحوذت القضية علي تفكيره – رابعا- المخاطرة الكبري في فضاء غريب عليه – خامساً- والاهم يعيد لجميل انتماءه كيف؟ فكأن احمد بسلوكه هذا قد حرّك قيمة الوفاء والتعاون وارفاع راية الحق داخل القلوب المصرية التي غيبتها الروح المادية وهي نموذج من واقع عربي أعم اوليست سعاد رمزا للارض المصرية وهذه الارض تتململ دفاعا عن ابنائها ببث روح الهمة والايفاء لدي ابنائها والمتمثل هنا في عصام، فجميل الذي دخل السجن غريب وهو بين ظهراني أهله، ومكث فيه دون ان يحرك أمره احد تأتيه المساعدة من الخارج اي من صديقه .فجميل الذي خانه الاهل وغفل عنه القانون وطواه الوطن خلف القضبان يجد صدي مأساته لدي أحمد. (واحمد قد يحيلنا الي معني اشمل واسمي بالمعني الاخلاق المحمدية الذي بث الرحمة والاخاء في مجتمعه) وبالتالي وكأن احمد هنا هو صدي لعقيدته واخلاقها التي شوهتها وطمستها طغيان الروح المادية، فعمل صاحبنا هنا علي تحريك قضية جميل التي لم تعد امرا شخصيا بل عاما بالنظر لمختلف الشرائح الذي ادمجوا في القضية واستعان بهم احمد بدأ من متساكني منزل جميل مرورا بسعاد واخيها وصولا للنادل والشرطي وحتي اهل القرية .فقضية جميل تخرج من حروف الرسالة لتنتشر في فضاء اوسع وبالتالي يتم رفع الغطاء عنها .فيخرجها احمد من سجلات المحاضر ليعيدها واقعا متحركا باثا فيها الحياة من جديد فتنطلق من ردهات الشرطة والفندق لتمشي خارجا وصولا للحقيقة، فجميل لم يعد سجين القضبان بل اصبحت قضيته خارجها تتحرك تحت الشمس، وكأن مختلف هذه الفئات التي اصبحت تدلو بدلوها في القضية والتي اشركها احمد طوعا وطمعا وهو الغريب قد ألهمها روح الانتماء والمسؤولية اذ كيف لغريب الديار ان يدافع عن احد ابنائهم وهم يخذلوه ويتركوه لمصيره، وهذا المعني يبرز جليا في اصرار عصام ورغم حالته الجسدية العودة للقرية صحبة احمد وحتي سعاد والتي سعت الي مصاحباتهما، أليس هذا من باب الشعور بالواجب والمسؤولية ليس فقط باعتبار محامية بل لانها مصرية والانتماء المشترك مع جميل والتي لاتعرفه كان حافزا أكبر، فهل يريد احمد عبر هذا ايصال رسالة مفادها : لما ونحن ابناء ام واحدة نعيش غرباء وتعتري علاقاتنا المصالح فحسب، فهل نحن في حاجة لرسول خارجي حتي يعيد العروة الوثقي ما بيننا ... كما ان رسالته تقول لماذا نشعر

    ReplyDelete
  3. This comment has been removed by a blog administrator.

    ReplyDelete
  4. بالاطمئنان للغريب ونستنجد به في حين يخوننا ويغدر بنا اخواننا ... اذا بين فينة واخري نحن بحاجة لمن يحيي القيم داخلنا ويجعلنا نتصالح مع انفسنا ومحيطنا والدليل علي ذلك: هو سعي ابو محمد والذي استوطن منزل جميل لمساعدة احمد وايضا زوجته بل وايضا يشركون ابنتهم سلوي لعلها تمدهم بما يفيد، وسعاد التي كانت علاقتها متوترة باخيها نري ان قضية جميل اعادت ترميم علاقتها به بل اصبحت اكثر حميمية، فبين صورتها في القطار وهي تبكي ضيم اخيها وصورتها هنا وهي تبكي اخيها لما تعرض له وابتسام اخيها لها وكأنها امام ارواح جديدة بل هي الروح الاصلية والاصيلة التي تسني لاحمد ترميمها ورفع الشوائب عنها، فها هو عصام ذاك المتعجرف والقاسي الملامح كما في القطار يصبح ودودا ومتعاونا بل ومخاطرا، وكأن احمد يريد اخبارنا بأن للالم والمآسي ايضا ايجابياتها فهي تجمع حتي بين الاخوة الاعداء وتولد الرحمة وتؤلف بين القلوب وتكشف معادن الناس الحقيقية، الا يحيلنا هذا علي معني آخر للغربة كيف؟ فكلما تعمقنا في ثنايا القصة الا واكتشفنا معني آخر للغربة يبثه أحمد بين ثنايا النص فالعربة لها وجوه عدة من بينها هنا الغربة عن انفسنا، افلم تكن سعاد تشعر بغربتها عن اخيها والعكس صحيح الا ان قضية جميل جعلتهما يقبران غربتهما وكأن الفاصل بينهما ليس زمن بل ازمان وها انهما يكتشفان مدي الحب المختفي تحت طبقات نفسيهما التي غطاها الشك والريبة ووجدا سعادتهما اكثر في تقاربهما وتعاونهما، معني الغربة ايضا اورده احمد في حديثه عن القرية التي تعيش متوارثة عقلية الثأر في تقاطع كبير مع محيطها فليس بعيدا عنها ببعض الامتار حيث الحياة المدينية ونواميسها الخاصة وانفتاحها مقابل انغلاق القرية وانعزالها مماضاعف غربة احدهما عن الآخر، كلّ هذه المعاني يؤكد عليها الكاتب بين الحين والآخر مقتنعا بفكرة اساسها ان الانسان خير بطبعه وانما الحياة وتعقيداتها هي التي غربته عن نفسه ومحيطه، هذه القيم التي عمل احمد علي احيائها في هذا الظرف الزمني الضيق دليل ان ماكان يشوب علاقاتنا هي فقط قشور رقيقة ومتي رفعناها بان لنا المعدن الاصيل .لذلك اصبحت تحركات شخوصه اسرع مدفوعة بروح التعاون من اجل رفع المظلمة عن جميل وبالتالي قبر غربته بل اكثر من ذلك اصبحت رغبة عصام وسعاد جامحة من اجل تجاوز روح الغربة ليس بينهما فقط وانما بينهما وبين احمد، فانظر لعلاقة عصام به بين الامتثال لاوامره والخوف عليه عندما فقد اللاقط وحرصه علي سلامته نفس الامر بالنسبة لسعاد بخوفها علي احمد عبر تجنيد اخاها لمساعدته بل رغبتها لمعرفته اكثر تلصصت علي خصوصياته مدفوعة بعاملين: ازالة حالة الغموض عن الكاتب وايضا دافع الاعجاب او لنقل الحبّ وهذه تؤسس لعلاقات انتماء جديدة، فكأن بكلّ الشخوص كانوا يعيشون في غفلة علي الحياة او حياة لم يريدوها ولم يختاروها والان يعقدون مصالحة معها عبر اعادة ترتيب العلاقات من جديد. اوليست فعلا علاقاتنا في الواقع تشوبها الغموض الاغتراب لذلك ربما فقدنا طعمها واستنشاق رحيقها وبالتالي لما لانعيد بناءها وتصالحها وتواصلها مع الحياة بشكل افضل

    ReplyDelete
  5. الي جانب كلّ هذه القيم التي تعتبر فرمانات يلزم الكاتب نفسه بها الا اننا لانغفل امرين هامين : هما روح المغامرة التي تعتريه لحد تفشي وتسرب هذه الروح للاخرين والامر الثاني هو الامل نعم انه من رحم الاحزان والالم يستمد الامل بان الغد افضل وبان الحياة رغم كلّ شيىء تستحق ان تعاش متي كان الخير والمحبة تعمر قلوبنا ... السنا في صحبة الحكيم ... شكرا علي النص الثري بالحركة والمغامرة والتشويق والسرد والطافح بالقيم النبيلة التي تدعو لها.

    ReplyDelete