Monday, November 14, 2011

غربــة - الجزء الثاني عشر

غربة - الجزء الثاني عشر

دق جهاز الهاتف في غرفة أحمد بينما كان يرتدي ملابسه استعداداً للسهرة وكان على السماعة الأخرى سهير سكرتيرة المهندس ممدوح
- أستاذ أحمد، مساء الخير المهندس ممدوح في طريقه إلى الفندق

- أين أنت ..؟
- في بهو الفندق
- سأكون معك بعد قليل

توجه أحمد في طريقه لبهو الفندق في الوقت التي انطلقت به زغاريد أحس بأنها تشق عنان السماء وعندما خرج من المصعد فوجئ بجمع غفير من الناس رجال ونساء وموسيقى الزفة المصرية تنطلق في رحاب البهو في جو من السعادة والحبور، أطلق العنان لعينيه في رحلة البحث عن سهير التي وجدها تقف بعيداً عنه قرب الكافتيريا تحدق بجموع المهنئين وتراقب بعينيها النجلاوتين فساتين السهرة وهي تختال على أجساد النساء المدعوات، توجه أحمد يشق الجموع صوب سهير التي لم تلاحظ قدومه وربما لم تتوقعه بهذه السرعة لذا وقف بجانبها يراقبها وهي تنتقل بعينيها هنا وهناك وتوزع كلمات التعجب أحياناً والاستهجان أحياناً أخرى، اقترب منها وهمس في أذنها قائلاً:
- العقبى لك
- أوهـ من أهـ .. أخفتني يا باشمهندس
- رأيتك مشغولة بالعرس فتركتك لفترة من الزمن و....
- العقبى لك أنت، أنا مازلت صغيرة .. أم أنك متزوج
- ... لست مرتبطاً
- معقول .. إذاً فلتقرص العريس
- ظننتهم يقولون هذا لصديقات العروس
- لا ممكن للرجال والنساء على حد سواء

وتوقفا عن الكلام عندما شاهدا العريس يتأبط ذراع عروسه متوجهان إلى قاعة الحفلات التي أعدت خصيصاً لهم يرافقهم ذويهم وأصدقائهم وباقي المدعوين، توجه أحمد ترافقه سهير للكافتيريا وطلبا بعض المشروبات بانتظار قدوم المهندس ممدوح الذي لم يتأتى لأحمد مشاهدته بعد وأخذا يتكلمان عن الزفة في مصر وعن تكاليفها الباهظة وما تتحمله العائلات في سبيل ليلة العمر كما يدعونها

- أهـ المهندس ممدوح وصل، ها هو قادم نحونا ترافقه المدام
وذهبت لاستقبالهما والقدوم بهما
- المهندس أحمد (معرفة) المهندس ممدوح مدير عام الشركة وصاحبها والسيدة حرمه
- تشرفنا يا باشمهندس كيف رأيت مصر هل أعجبتك
- كيف لا إنها جميلة جداً ، كيف حالك يا مدام، (مقبلاً يدها)
- كيف حالك يا باشمهندس
- الحمد لله، العمل ثم العمل يا استاذ أحمد فالعمل يأخذ مني كل الأوقات الجميلة (وهو ينظر لزوجته ضاحكاً) ولكننا نحاول اقتناص الفرص أليس كذلك يا نظيرة
- أهـ بالطبع ولكن ليس دائماً (وهي تصطنع الابتسامة)
(المهندس ممدوح مخاطباً سهير)
- هل حجزت لنا مائدة العشاء للعشاء
- نعم بالطبع، المائدة المفضلة كالمعتاد
- إذن هيا بنا تفضل أستاذ أحمد

وتحادثت نظيرة مع سهير التي كان يبدو على وجهها الامتعاض من وجودها معهم، تَرافَقَ الرجلين وهما متوجهان إلى النادي الليلي للفندق الذي حفل ببرنامج ساهر مع العشاء الفاخر الذي يقدمه الفندق لرواده، أمضى الجميع سهره كل فيما يخصه، كانت نظيرة ة تراقب سهير وتنظر إليها شذراً والشرر يتطاير من عينيها ويبدو أن سهير تعلم جيدا كيف تتعامل معها لأنها لم تحاول حتى مجرد النظر إليها ولو لمرة واحدة بينما انغمس الرجلين في حديثهما عن الأعمال التي يستطيعا أنجازها سوياً كما وتعرف ممدوح على ما تؤديه المجموعة من خدمات واستشارات واستثمارات عن طريق بعض البنوك الخليجية والدولية المهتمة واتفقا على أن تقوم سهير بإعداد نسخ من العروض لبعض المشاريع التي يستطيع الطرفان أن يعملا بها سوياً
- سهير من الغد يجب عليك الاهتمام بما يلي
أولا أعدي حصراً للمشاريع التي نريد شركاء بها
ثانيا كشف بالمشاريع التي نحتاج بها إلى قروض، تستطيعي أن تسألي المهندس أسامة عن هذه المشاريع خاصة وأنها مسئوليته
ثالثا أعدي لي تقريرا مفصلاً عن المشاريع التي نحتاج إلى معونة استشارية خاصة المشاريع التي تختص بمرافق الدولة ولا تنسي المشروع الجديد أعني الحي السكني بالأقصر
ماذا هناك أيضا، حسنا أريد هذه التقارير والكشوف بأسرع وقت، هه متى تستطيعين إنجاز ذلك
- إنه عمل ضخم بالتأكيد ولكن الكثير منه قد أنجز فعلاً، ربما يومين يكونا كافيين لذلك
- أعطيتك يومين ولكن ليس أكثر من ذلك، إنها موظفة ممتازة يا أستاذ أحمد أليس كذلك.. أخ (ناظراً إلى زوجته التي تشاغلت عنهم بالعرض الفني)


ابتسم أحمد بعد أن فهم ما يدور تحت مائدة العشاء ويبدو أن زوجة السيد ممدوح تغار من سهير السكرتيرة الحسناء وما أن مدح ممدوح سكرتيرته حتى ضربته برجلها أو قرصته لم يكن الأمر واضح لأحمد أما سهير فقد امتصت شفتها السفلي تعبر عن امتعاضها مما حدث قائلة
- إنك تمدحني بأكثر مما أستحق يا باشمهندس (تستدرجه للحديث)
- لا يا سهير (وهو يراقب زوجته) أنت تعلمينني جيداً فأنا لا أجامل أحداً وخاصة بما يخص العمل
- أعلم ذلك جيداً يا باشمهندس (بدلآل يفوق الحد وهي تنظر لنظيرة)


أما نظيرة التي وقفت فجأة قائلة بأنها تشعر بالتوعك وبأن الألم في رأسها قد عاودها مرة أخرى وهي تريد العودة للمنزل
- أهـ إن الآم رأسي هذه المرة شديدة أظن بأنني سوف أتوجه للمنزل هيا بنا (موجهة حديثها للمهندس ممدوح)
- سأطلب من فتحي أن يوافيك (وهو يتصل بهاتفه الخلوي) ألو .. فتحي نحن بالملهى الليلي تعال إلى فوق حالاً
- ماذا تعني يا ممدوح ألن ترافقني للمنزل
- لا فلدي بعض الأمور التي يجب علي إنجازها وليس من المعقول ترك الباشمهندس أحمد وخاصة أنها أول سهرة له بالقاهرة
- تريد البقاء إذن (وهي تستشيط غضبا، وبلهجة لا تخلو من الوعيد) حسناً ... سأبقى على الرغم من ألمي علشان المهندس أحمد
- ماذا تعنين ألم تقولي بأن رأسك يؤلمك وبأنك تودين الذهاب للمنزل؟
- أهـ (بنرفزة واضحة) فالتطلب لي بعض الأسبرين وسأكون بخير

طلب المهندس ممدوح لزوجته بعض من الأسبرين ومن ثم أمضوا باقي السهرة وهم يشاهدون برنامج السهرة الذي حفل ببعض الغناء من مطربين مشهورين ولوحات من الرقص الشرقي الأصيل وبعدها توجه المهندس ممدوح برفقته زوجته إلى منزلهما بعد أن ودع المهندس أحمد وتركه مع سهير التي ذهبت في ذلك الوقت لغرفة الزينة لكي لا تضطر لتوديع نظيرة ومن ثم عادت بعد أن تأكد لها بأنهما قد ذهبا
- هل لاحظت غيرتها الشديدة
- هي زوجته وأنت يا سهير سكرتيرته وأنت جميلة جداً والعداء مشهور بينهما ولستما الوحيدتان اللتان على هذا الوضع
- كم هي قبيحة بهذا التصرف الذي تقوم به
- يجب عليك أن تعذريها، كوني في مكانها وزوجك لديه واحدة مثلك تعمل لديه تمتلئ بالحيوية والجمال والأنوثة ....
- أتعني ما تقول ( بدلع)
- نعم
- إذاً أنا أعذرها
- هل يوجد هاتف هنا ..

نادت سهير على النادل تطلب منه أن يوافيها بهاتف، أتصل أحمد بالاستقبال مستفسراً إن كان لديه أية رسائل أو جاء أحد من أجل مقابلته فأخبره بأن لديه رسالة من الأقصر فطلب منه أحمد موافاته بها بعد أن أعلمه بمكانه، كانت الساعة قد تجاوزت الثانية عشرة ليلاً عندما توجه النادل إلى أحمد يسلمه الرسالة التي جاءته من الأقصر، وضعها أحمد في جيبه بعد أن أنقد النادل بعض النقود
- هل يعرف أحد أنك هنا
- بالطبع لدي بعض الأعمال هناك لذا فأنا أخبرت الشركة بمكان تواجدي تحسباً لأي طارئ
- أهـ طبعاً … طبعاً حسناً ما هو جدولك لهذه الليلة
- جدولي ليس به أي حروف سوداء هو أبيض من الثلج
- (ضاحكة) إذن ما رأيك أن نملئه ببعض الألوان
- المهم أن يكون اللون الأخضر هو السائد
- ماذا تعني (وهي تضحك) لا .. لا تخف سنتمشى على النيل؟
- فكرة جيدة ... ولكن ماذا بشأنك (وهو ينظر لساعته)
- لا ... لا عليك ليس لدي من يضايقه تأخري
- أأنت وحيدة هنا
- لا أنا أعيش مع والدتي وأختي الصغرى، والدي توفى منذ فترة كبيرة وأنا المعيل الوحيد لهذه الأسرة
- إنني حقاً أسف، فأنا لم .....
- لا عليك فأنا متعودة
- سهير، تستطيعين العودة للمنزل فأنت لم تقصري بشأني أبداً
- أتحسب أنني باقية لأجل الضيافة لا، ولكنني فعلاً بحاجة لأن أتحدث لأحد ... ليس أي أحد ... أعذرني فأنا أرى بك شخصية والدي رحمه الله إنه يشبهك كثيراً وخاصة طريقة كلامك رحمه الله ولهذا عندما رأيتك للوهلة الأولى ارتحت كثيراً لك
- إذن تعالي ولا تضيعي السهرة هنا فأنا بالكاد أسمعك فالضجة هنا تخنقني ....

وهما متوجهان إلى المصعد ومن ثم لخارج الفندق المطل على النيل مباشرة
- حسبتك سعيداً بقضاء الأمسية بالملهى
- لا ... أنا لا أحب الأصوات العالية .... لا أرتاح لها ... تزعجني ، لهذا عندما ذكرت نزهة على ضفاف النيل رأيتها فرجاً من الله ..... هيا تعالي

أسرع أحمد الخطى ممسكاً بيد سهير وهما متوجهان إلى خارج الفندق فرأى على مقربة من ضفة النهر عربة تجرها الخيول فنظر إلى سهير نظرة فهمت منها ماذا يقصد فأشارت له برأسها بالموافقة فنادى على صاحب العربة وركبا طالباً منه التنزه بهما على شاطئ النيل وهما يسمعان أغان أم كلثوم القديمة
كان الجو رائعاً في هذا الوقت من السنة وليل القاهرة يعرفه كل من زارها، النسيم العليل يداعب الوجنتان والموسيقى تصدح مع الغناء الشجي
- القاهرة رائعة بالليل يا انسة سهير
- هذا صحيح، كنت أتمنى أن أقول الكلام نفسه عن النهار ولكن الزحام وخنقة السير ظلما المدينة، بس بلاش آنسة ... هه
- حاضر ... بلاش آنسة ... لكنها يا سهير تبقى مدينة رائعة، انظري إنها الثانية عشرة والنصف بعد منتصف الليل وما زال بإستطاعتك التنزه على العربات وزيارة المطاعم وربما أيضاً المحلات التجارية
- مدينتنا يا باشمهندس عريقة في القدم وتمثل حضارة موغلة في أحضان الماضي، لا تنسى بأننا نتاج حضارتين، الحضارة الفرعونية والحضارة الإسلامية وأيضاً لا تنسى بأننا نعتمد على السياحة كأكبر عائدٍ للدولة
- طيب بلاش باشمهندس هه ... اهـ نعم أعلم هذا السياحة في مصر، لقد قرأت عن هذا الموضوع وأعلم بأن لديكم أكبر مسرح ومخزون للآثار في العالم غير الذي ما زال مخبأ تحت الرمال، أعلم الكثير عن هذا الموضوع
- حاضر ... (وهي تضحك) والسياحة هنا في مصر لا تكلف الكثير من المال كغيرها من البلدان السياحية فنحن نعتبر من أرخص الدول السياحية في العالم
- هذا صحيح ..
- هه سنبقى طوال الليل نتحدث عن السياحة والآثار والمال والأعمال؟
- آسف فعلاً أنا متأسف ولكن يجب عليك أن تعذريني، كما قلت لك فهذه أول مرة أحضر بها إلى مصر
- لنتوقف هنا قرب الكوبري فالمنظر رائع ونستطيع بعد ذلك أن نجلس في ذلك المقهى (مشيرة إليه) الذي يطل على النيل
- هل سمعت الهانم (مكلماً الحوذي) فالنتوقف قرب الكوبري

أعطى أحمد الحوذي أجرته ثم صرفه وجلس هو وسهير على أحد المقاعد الحجرية المنتشرة على الكورنيش قرب الجسر الذي يقطع نهر النيل
- أخبريني عن نفسك يا سهير أعني ألست مرتبطة بعد؟
- لا .. ليس بعد فهذا شيء لم أفكر به مسبقاً، طبعاً تقدم لي الكثير لكنني لم أوافق على أحد منهم ليس لأنهم ليسوا جيدين لا ولكن المسؤلية التي ورائي لا تسمح لي بالتفكير بنفسي بعد، هناك أمي وأختي التي ما زالت بطور المراهقة والتي ما زالت تكمل دراستها لمن سأتركهم، خاصة وأنني لا أستطيع أن أضمن أي شخص سأتزوجه، أعني هل سيكون جيداً وهل سيتركني لأعتني بأمي المريضة وأختي .. لا .. لا أستطيع بالفعل التفكير بهذا الموضوع
- نعم معك كل الحق، ولكن لماذا دائما تضعين السلبيات أمامك، أنت فتاة جميلة وما زلت بريعان الصبا وأمامك الحياة كلها فلماذا لا تختارين منها إنسان جيد وتشترطين عليه أن يدعك تهتمين وترعين أمك وأختك
- هذا صحيح (وهي تتأهب للمسير) .. لنذهب للمقهى .. لست أدري إذا ما كنت أثقل عليك بقصتي هذه ولكن دعني أوجزها لك ما استطعت
- لدينا الليل كله فلا تختصري شيء أبداً
- (مبتسمة) حسناً لك هذا

سارعا في اعتلاء الجسر الفاصل بين الجاردن سيتي والمهندسين يتوقفا أحيانا لتخبره عن برج القاهرة الشاهق أو تلك العمارة التي تسمى مبنى التلفزيون وغيرها من المعالم الموجودة في المنطقة
- نعم ما هي قصتك
- كنت في السابعة من عمري عندما توفى والدي ولم تكن إيمان أختي قد تجاوزت الشهر من عمرها، والدتي كانت سيدة منزل أي أنها لم تكن تعمل، كان من الصعب علينا أن نستمر بالحياة المرفهة التي عودنا عليها الوالد رحمه الله وقد كان من المؤمنين بالمقولة المشهورة "اصرف ما في الجيب يأتي ما في الغيب" وعندما انصرف هو وتركنا وحدنا لم يكن له راتب تقاعدي وكان من الطبيعي أن تتجه والدتي لعمي أخو والدي من والدته حيث أنه القريب الوحيد لوالدي ليعيلنا لكنه بدلاً من ذلك أخذ يعرض على والدتي الزواج ولم تكن والدتي لتتزوج بعد والدي للحب الذي تحمله بقلبها له ولخوفها علينا فاستدانت بعض النقود من أقاربها وانكبت على ماكينة الخياطة التي ابتاعتها بهذه النقود لكي تستطيع توفير الحياة الكريمة لنا وبالفعل صبرت الوالدة كثيراً إلى أن جاء يوم تخرجي، اليوم الذي انتظرته والدتي مدة سبعة عشرة عاماً تتواصل بها ايام الكفاح بلياليها، إن كنت أقول لك بأنني خائفة فأنا أعني ما أقول، لا أريد أن أظلم أحد معي فأنا لن أستطيع التخلي عن والدتي بعدما تخلت هي عن حياتها من أجلنا نحن

- قصةُ أمٍ عظيمة .. في الحقيقة يَندر وجود أُم مثلها في أيامنا هذه وأتمنى أن ألتقي بها إن واتتني الظروف إنشاء الله
- ومن قال لك بأنك لن تلتقي بها .. هذا هو المقهى الذي نقصده ، لنختار مائدة قريبة من النيل ... ما رأيك بهذه
- الأمر سيان عندي فلتجلسي قليلاً .. أريد التكلم بالهاتف .. اهـ ما اسم هذا المقهى يا سهير
- لا أدري .. اهـ أنظر هناك أو فالتسأل النادل
- معك حق

أسرع أحمد بخطواته صوب الهاتف يريد الإتصال بالفندق، لقد نسي تماما عم محمد السائق، لربما جاءه الفندق بالرجل الذي يريد
- الاستعلامات .. أرجوك اريد التكلم مع الاستقبال .. هه معك المهندس أحمد نافع غرفة 614 هل هناك رسائل لي .. لا شيء اهـ حسناً .. لو سمحت أنا بالخارج الآن بمقهى يسمى الفراعنة .. تعرفه..! هذا جيد .. حسناً إنني بإنتظار شخص ما لو سمحت اعلمه بمكاني لو جاء يسأل عني .. نعم .. شكراً

3 comments:

  1. عالم السكريتريات , هل هو خانق للذوات ام جسر لتحقيقها ؟ المميز في قصة غربة ان كلّ تحرك لأحمد نافع في فضاء جديد ,الاّ وتفد شخصيات جديدة تحمل معها مفهوم آخر للغربة .ولهذا نفهم ان الكاتب اختار لقصته عنوان "غربة" نكرة وغير معرفة باعتبار ان لكل منّا غربته الخاصة وبالتالي لكلّ منّا مفهومه للغربة . كما ان اختيار التوقيت يعتبر امرا هاما باعتبار ان الليل هنا لايفيد معني موت الحياة والهدوء والسكينة فحسب وانما يرمز به الكاتب الي نزع الاقنعة الاجتماعية وعودة الذوات تتدثر بذاتها . فمع الليل ,يصبح المرىء في تماس مباشر مع ذاته التي غمرها صخب النهار .فمثلما نزيل في الليل كلّ قيودنا من مساحيق ولباس عمل ورداء التقنع الاجتماعي حيث يسعي المرء جاهدا الي جعل تصرفاته علي ايقاع حياة الاخرين وفي خدمتهم فان الليل يتيح له تنقية الذات من كلّ ذلك ووقوفها عارية امام صاحبها .فالليل اذا كاشف لحقيقة الانسان .وهذا الايحاء والرمزية هام جدا .باعتبار ان اصل الامر ,ان يكون النهار كاشفا للحقائق تحت اشعة الشمس الاّ ان الكاتب يعتبر ان النهار يحمل الشخصية المتلبسة للانسان والليل يتيح له معانقة الذات لروحها الاصلية . فالليل عند احمد نافع هو الحقيقة والنهار هو الظل ان لم نقل سراب الانسان . فهاهي سهير التي أطلت علينا في الجزء الفارط كامرأة عملية ,نشيطة , استغلالية (مسالة العمولة) قناصة للفرص ,تعرف وتعي ما تريد نجدها في الليل أمرأة هادئة ,متأملة ,متألمة ,يتيمة ,تشكو الحنان الابوي ,تجرّ خلفها مسؤوليات عدة ....اذا الليل اتاح لها فتح دفاترها الخاصة التي تكشف عن غربة شاقة . وكأن تلك البشاشة والنظارة التي ارتسمت علي ذلك الوجه نهارا انما لاخفاء ألم داخلي لم يتح النهار له فرصة ان يطفو علي السطح .بل لم يمنحه مجالا لذلك . ليأتي الليل ويزيل تلك الستارة النهارية .فهل نحن شخصية واحدة ام شخصيات عدة جبلت النفس الواحدة علي ارتدائها ولعب ادوارها المختلفة . اذ يدخل بنا احمد عالم السكريتارية ليكشف لنا نماذج اخري من شرائح المجتمع المظلومة والتي تحمل ازرا قد يتعدى طاقتها واحتمالها في كثير من الاحيان .فهل نحن نختار طريقنا ام طريق الغربة يختارنا . مراقبة احمد لشرود سهير وهي تتابع العرس لدرجة عدم شعورها بوجوده .هل يخفي رغبة مكبوتة لها وتوق لتعيش نفس اللحظات ام ان بهرج العرس هو الذي اخذ لبها ؟ ان كان للامر الثاني فيه نصيب الاّ اننا بتعمق داخل حياة سهير نكتشف بان هناك فعلا نزاع بين رغبتها وبين مسؤولياتها . فبمجرد ان اشتغلت تسلمت دفة رعاية اهلها :أمها وشقيقتها . هذا العبىء الذي يمثل قيدا لحياة سهير ,باعتبار ان اضطلاعها بالمسؤولية لم يكن اختيارا بقدر ما كان قسرا واجبارا . ففي ظل غياب مورد رزق قار وبوفاة الاب ومحاولة الام اكمال المشوار بما تيسرّ الي ان اخذ منها التعب ضعف البصر وتراجع الصحة كان لزاما علي سهير ان تستلم القيادة . هذه المسؤولية جعلتها تسخر ذاتها لخدمة امها وشقيقتها .وبالتالي تصبح حياتها وقفا علي اهلها ,لاتستطيع التصرف فيها بشكل اناني

    ReplyDelete
  2. وهنا تلغي الذات لصالح ال-نحن-. اذا هذه المسؤولية الملقاة علي عاتقها ,وضعت حدّا امام طموحات سهير واحلامها الشخصية بل وردمت رغباتها كفتاة في ذلك السنّ. فانظر لشعورها وصاحب العمل –ممدوح- يشكر جهودها وفطنتها مما اثار غيرة زوجته . هذه الغيرة اشعرت سهير بانوثتها وايضا بجدواها ونفعيتها . وبأنها امرأة يافعة تثير الانتباه وخاصة انتباه الجنس الآخر وغيرة النساء .فلما لاتمنحها الحياة موقعها الطبيعي اذن . لما تظلّ دائما امرأة الخفاء .بل امرأة الظلّ, فهل ان النهار غفل علي منحها مكانا اجتماعيا تحت الشمس .؟ بل نرى غربتها العميقة وكأنها جبلت فقط لاسعاد الاخرين :ليس بدأ بصاحب العمل حيث تتجاوز مهمتها الوظيفة المكتبية الي خارجه مرورا بالعملاء حتي تضمن افضل الصفقات للشركة التي تعمل بها وقد تتحول هي ايضا جزءا متمما لهذه الصفقات وصولا لخدمة أهلها . ربما في هذا الاطار نستطيع ان نفهم محاولتها الحصول علي نصيبها من الصفقات وكأنه نوع من الانتقام او استرداد حقوق هضمت . فمثلما كانت هذه المسؤوليات قيدا لها مثلما ايضا شكلت لها نوع من التحررّ .كيف ذلك ؟ يبرز الكاتب ذلك بشكل جلي حينما قال لها :" سهير تستطيعين العودة ...."فكان ردها :" ليس لدي من يضايقه تأخري .." اذا هي تعي انها كفتاة من بيئة شرقية محافظة قد تأخرت ولكن بما انها لاتخضع لاي سلطة معنوية كالسلطة الابوية مثلا فان ذلك يمنحها حرية التحرك . والكاتب في حقيقة الامر يحيلنا هنا علي قضية جدّ هامة . اولا ان السلطة المالية او النفوذ الاقتصادي للشخص داخل اسرته ,مثلما يجعله مقيدا بمسؤولية الاعالة مثلما يمنحه حرية الارادة .بمعني من يعيل يصبح فوق المحاسبة والمراقبة .والكاتب هنا لا يقف في موقف المدين لسهير ابدا وانما بسرده للاسباب وكأنه يجد لها اعذارا .وكأنه يقول :"عوض لومها ..لوموا الظروف التي دفعتها لذلك ...ففي كثير من الاحيان يكون المرىء مدفوعا لدفع ضرائب وضع ما لم يكن هو المسؤول عن اختياره ...وبالتالي عليكم محاكمة هذه الظروف وليس محاكمة الضحية ." اذا سهير ضحية اليتم ,ضحية الحاجة , ضحية العبىء العائلي ,ضحية نضال الام لسبعة عشرة سنة , ضحية المجتمع الذي لم يساعدها علي اختيار الافضل ,ضحية الحكومات التي تتخلي عن واجباتها تجاه مواطنيها .....لتجد نفسها ضحية عالم الاعمال الذي لم يستنفذ فقط قدراتها ومهاراتها العملية وانما روحها الانسانية ايضا . وكأن السهير ارادت الانتقام من كلّ ذلك بتحويل قيودهم الي تحررّ علي الاقل حرية التحرك والسهر مثلما تشاء .والكاتب هنا يلمح لامر هام :"ان حالة التيه والضياع التي تشعر بهما سهير انما نتيجة غياب سلطة ابوية .وبالتالي ما تقوم به هو نوع من التعويض ليس الاّ " والدليل علي ذلك قولها :"أتحسب انني باقية لاجل الضيافة لا....ولكني فعلا في حاجة الي التحدث الي شخص ...فأنا ارى بك شخصية والدي ...." هذا القول الذي اورده الكاتب ,بل وجعل موقعه بارزا في النص يكشف عن نفسية سهي راو بالاحرى غربتها وذلك علي الاقل من خلال امرين اراد الكاتب التنبيه اليهما .اولاهما ان سهير في حاجة لمن ينصت اليها .وهذا الطلب دليل علي وجود نوع من القطيعة ليست هنا بالمعني الابستمولوجي للكلمة وانما قطيعة التواصل .فكأن سهير تعودت علي الانصات للاخرين وتلبية رغباتهم سواء كانت عملية او اسرية ولكن من يستمع لشكواها ,لانينها ,بل حتي لطموحاتها ..لا أحد ..هذا الوضع من البتر في التواصل يجعل من المرىء كابتا لآماله ,دافنا لها ,في حالة تقوقع وربما قد تصل الي حالة الاكتئاب .فسهير عودت محيطها علي الاستماع ,علي تلبية مطالبهم ,عن تعويضهم ,عن حلّ مشاكلهم ..اذا تعودت علي العطاء دون الاخذ ...فلما لاتسأل عمّا يختلجها ؟ ولما لاتسأل عمّا يؤلمها ؟ ولما لاتسأل عمّا تريده

    ReplyDelete
  3. هذا الوضع جعل العلاقات بينها وبين محيطها تسير باتجاه واحد وليس في الاتجاهين : منها اليهم ومنهم لها .بل نرى ان العلاقة تسير منها اليهم فقط . فكأن الكاتب يكشف من خلال ذلك عن ازمة اجتماعية هامة تهدد الاسر وبالتالي المجتمعات :هو غياب الحوار التبادلي .فانظر لرغبة سهير :"اريد التحدث ..." وكأن الكاتب يقول :"لو وجدت سهير أذن صاغية لربما اسعفت في حياتها بل ربما كانت اختياراتها اصوب وقراراتها أجدى ."وهنا يعود الكاتب باللائمة علي المجتمع الذي استغلها دون موجب حقّ. فها هو أحمد الغريب ,تفطنّ لنظراتها المشرئبة للعرس بل وترك لها فسحة التفريغ عن رغبتها ولو فرجويا .فلما محيطها غفل عن ذلك .لما كلّ هذه الانانية المفرطة التي تدفع بالاخرين الي كبت احلامهم ارضاءا للمحيطين ؟ وبالتالي وصف الكاتب لحالة سهير وهي مشدودة للعرس لم تكن اعتباطيا بل وكأنه يقول لنا :"هذه النسخة الاصلية لسهير وليست تلك النهارية " وليؤكد هذا الامر يطلق لها العنان لتتحدث وكأن لسان حاله يقول :" لاتطلقوا الاحكام علي الناس مظهريا بل اقتربوا منهم واستمعوا اليهم لتكتشفوا حقيقتهم التي غالبا ما يخفونها الا علي انفسهم مرضاة للاخرين .."فالكاتب يجرم المجتمع والظروف معا . اما الامر الثاني الذي اراد الكاتب كشفه هو قول سهير "انك تشبه والدي ..." هذه الفتاة التي يتمت في سنّ السابعة وهي سن حرجة تكون فيها في حاجة للرعاية ليست المادية فحسب ولكن الرعاية النفسية .هذا القول يخفي حنينا جارفا للعاطفة الابوية ولكن ايضا ينم عن روح اعتذارية .كيف ؟ فكأن سهير واعية ان وظيفتها لم تقتت من جهدها فحسب وانما من كرامتها وربما من انوثتها وانها تدفع ضريبة باهضة جراء اعالة اهلها .وبالتالي وكأنها تلوم والدها الذي اختطفه القدر وجعلها فريسة لكل ذلك وتقول :"لو انك يا والدي علي قيد الحياة لربما كنت سهير ثانية كما انا وانت تريد " ولكن ايضا قد يكون قولها فيه رغبة اعتذارية من والدها .وكانها تطلب المغفرة ان حادت عن طريق اختارها ولم تختره .اذا سهير التي نراها هنا ,هي سهير التعيسة والتي تحاسب نفسها وصاحبة الضمير الحي والروح المتعذبة . وعبر سهير التي تعيش غربة من نوع آخر يعري الكاتب ظاهرة اخرى اجتماعية خطيرة تعيشها المجتمعات العربية .وكانه في رحلة رفع الستار عن الالام ومعاناة شرائح اجتماعية عدة يجعل شخوصها تتحدث وتتحرك بحرية وتعبر عن نفسها . وهذا الامر الغير متاح لهم اجتماعيا بل في كثير من الاحيان يجابهون بالصدّ والاحكام القاسية والجلد دون وجه حقّ. لم ينسي الكاتب خلال هذه الرحلة ان يعرج علي المعالم الاثرية لمصر وليس ذلك من اجل غاية اعلانية ابدا وكأنه يقف علي قمة تناقض هامة :" فكيف لكل هذه الحضارة العريقة ان تختزل كلّ هذه الالام .وكانه يتساءل هل بناة الحضارة تلك لم تكن لهم مآس بحجم ما لاقاه هنا جعلتهم يبنون هذه الحضارة التي بقيت معالمها شاهدة عليهم .وبالتالي فالكاتب يسأل او يسائل هذه الاثار :" كيف تستطيعين امتاع الوافدين اليك وتمنعين ذلك عن مواطنيك ؟فهل انت جاحدة لهم ام هم جاحدون لك لطغيان الحياة المادية التي اعمت بصائرهم ؟ وما حضور النيل الدائم الا لذات الغرض فكان بالكاتب يقول له :" كيف تعجز وانت من وهبت هذه البلاد الحياة واستوطنت الحضارات والتي تحولت اثارها الي مخزون سياحي وبالتالي اقتصادي هام ,كيف يا من فعلت كلّ ذلك عجزت علي امتصاص وتذويب مآسي هؤلاء ؟ هل لانهم خانوك وهجروك وربما ضيقوا ايضا علي حياتك كان نصيبهم ذلك ؟ هذا التساءل والجمع بين ماضي عريق وحاضر هشّ ومثقل باللالام والاحزان جعلت احمد نافع يتسائل :من خان من ؟ ومن غرّب من ؟ نص يغوص في اعماق الروح البشرية ومعاناتها محاولا عرضها علي سطح المجتمع .نصّ يكشف ما ارادت الحكومات والمجتمعات باسم المحافظة ردمه دون علاجه حتي لاتتحمل مسؤولية نتائجه فيأتي الكاتب ليرفع البرقع عنه ويجعل المجتمع يتكشف علي ذاته المشوهة .وكانه يحثه علي الوقوف عاريا امام ذاته عوض تقنيعه لان القناع زائل لامحاله فلما نترك الامر يتفاقم عوض مواجهته ....السنا في حضرة الحكيم

    ReplyDelete