Tuesday, November 22, 2011

غربــة - الجزء الرابع عشر

غربة - الجزء الرابع عشر

إستيقظ أحمد على صوت طرقات مزعجة على باب غرفته، وما أن فتح الباب حتى دلفت منه سهير التي كان بادياً على وجهها الإنزعاج متسائلة عما فعلته حتى يمنع عنها الإتصال به، فإستغرب أحمد من كلماتها وطلب منها الجلوس والتروي قليلاً والهدوء حتى يستجمع أفكاره فيما توجه لغرفة الحمام ليأخذ دشاً ينعشه من حالة النوم التي مازال بها ... وما أن إنتهى حتى وجد سهير قد طلبت بعض المأكولات ليتسنى لهما تناول الطعام على شرفة الغرفة حيث أن وقت الغداء قد تأخر والساعة قد شارفت على الثالثة والنصف من بعد الظهر ..

- ماذا الثالثة والنصف
- نعم ولكن أخبرني لماذا منعت عني الإتصال بك؟
- لا لم يحصل هذا ولكني طلبت من الإستقبال عدم تحويل اي إتصال لغرفتي حيث أنني أريد النوم ولم .. اقصد
- أهـ فهمت ... حسناً ألست جائعاً ..
- سهير ... لماذا جئت الآن ؟ أليس لديك عمل
- ألم نتفق على هذا من قبل ... نتغدى معاً
- نعم ولكن ... آهـ .. سهير أشعر بالإرهاق فعلاً .. هل تطلبين لي فنجان من القهوة لو سمحت .. هل لديك أسبرين أو..
- لا .. ولكن أعتقد بأن الفندق لديهم .. لا عليك إجلس الآن .. إرتح قليلاً ... أخبرني بماذا تشعر يا أحمد .. هل هناك ألم؟
- لا .. هو مجرد إرهاق .. أعتقد أنه ضغط الدم لدي .. اعطني بعض من عصير البرتقال هذا (مشيراً إليه)
- تفضل ... سأطلب لك القهوة

بعد تناول الغداء شعر أحمد بالنشاط يدب إليه سريعاً فيما كانت سهير تخبره عن المشاريع التي من الممكن لشركته الدخول بها وتعلمه بما يمكن لهما أن يفعلاه بخصوصها وأخبرته أنها ستحاول تجميع المزيد من الأوراق التي طلبها المهندس ممدوح لتقديمها إليه وبأنها بالفعل ستكون يوم الغد لديه بعدما أوصت المهندس اسامة بها ... تمالك أحمد نفسه قائلاً لسهير وهي مندفعة في كلماتها عن المشاريع وما يمكن أن يتحصلا منها وبأنها فكرت بالموضوع وتريد أن تقاسمه النسبة التي طلبتها منه
- سهير ... ما بك؟
- ماذا تعني
- أنت لست على طبيعتك.. أخبريني ما الأمر؟

ساد الصمت بينهما لبرهة من الزمن وكأن عيناها ترفضان النظر إلى وجهه وإلى عينيه تحديداً وبدأت الدموع تتجمع في مقلتيها شيئاً فشيئاً حتى إنسابت على خديها دونما إنتظار ...
- هل أسأت في القول إليك؟
- لا ... (لكنها بدأت بالنحيب)

قام أحمد بحضنها إليه فيما تمنعت هي لبرهة لكنها ما أن وضعت رأسها على صدره حتى أجهشت بالبكاء، فأخذ يهدأ من روعها ويسألها عما بها
- حسبتك لا تريد أن تكلمني بعدما حصل ما حصل ليلة الأمس
- حسناً ... لماذا ظننتي ذلك؟
- لا أدري ... حاولت بعد وصولي إلى الشركة الإتصال بك لكنهم أخبروني بأنك لا تريد الإزعاج .. فحاولت إفهامهم بأنك لن تنزعج من مكالمتي ... لكنهم رفضوا معللين أنك كنت صارماً بهذا الأمر
- نعم بالفعل ... أخبرتهم أن لا إستثناء ابداً .. ولكن ما الذي أبكاك الآن وقد شرحت لك الأمر قبل قليل..
- هل تعلم .. لن تغضب مني .. مهما قلت لك؟
- لا تفضلي يا سهير لن اغضب
- حسبت أنني لو شاركتك بما سأناله من العقود ستكون راضياً عني لكنني داخلياً كنت أتمزق .. لأنني أعلم بأنني أتصرف بحقارة ... أحمد شعرت بأنني أحاول شراؤك بالمال .. أنا آسفة لكن شعرت بوضاعتي وأنا اقول لك هذا وتخيلت بأنني لو عدت إلى سهير التي عرفتها قبل ليلة الأمس .. لربما سيعود إحترامك لي ... أسئلتك هذا الصباح (وعادت للبكاء)
- سهير ... لحظة لو سمحت كفي عن البكاء هه من قال أنني لا أحترمك؟ ... لا يا سهير .. يبدو بأنك لا تعرفيني جيداً
- ولكن ...
- سهير أنتِ إنسانة حساسة وأنا أعلم هذا جيداً لا تظني بي الظنون .. أرجوك كفي عن البكاء قليلاً .. وفكري بالأمر .. ألم تقولي بأن ما حصل معك لم يكن بإرادتك؟
- نعم وأقسم...
- حسناً ومن أنا حتى أحاسبك ... ما جرى ذهب في طريقه ولكننا أولاد اليوم .. اليس كذلك ... ستبقين في عيوني سهير تلك التي عرفتها قبل ما حصل وبعد ما حصل هي سهير الرقيقة الحنون .. صدقيني أنا لا افكر بك بأي شيء شائن.. لا أبداً أحترم رأيك ورغباتك وأعرف بأنك إنسانة صالحة وذكية
- هل صحيح ما تقول أم أنك تجاملني
- ولما اجاملك سهير .. ومن أجل ماذا؟ العمل أم المتعة؟
- كليهما ... (تضحك)
- سهير أنا لا افكر بهذه الطريقة أبداً ولا أجامل ابداً صدقيني
- (وهي تمزح) صادق يا كذاب ... طيب سأغسل وجهي بينما ترتدي أنت ملابسك أم تريد قضاء الوقت هنا .. في الغرفة
- لا ... افضل المغادرة ربما إلى مكان ... ولكن لا اعلم إلى اين ؟ ما رأيك
- هل رأيت إهرامات مصر؟
- لا... هل نذهب هناك؟
- هه ما رأيك؟
- يا ريت ...
- إرتدي إذا ملابس تناسب الرمال و...
- ليس لدي هكذا ملابس فكلها بالأقصر
- حسناً لا بأس .. سآتيك بملابس من المحلات بالبهو لأغسل وجهي قبلاً ... (وهي في الحمام) كم قياس بنطالك أحمد؟
- أظنه 34 أو 33 لا أعلم والقميص قياسه وسط على ما أظن
- مابك لا تعلم مقايس بنطالك (وهي تنظر إليه من باب الحمام)
- بصراحة منذ وقت طويل لم اشتري شيئاً بنفسي ... كانت هي من يشتري لي كل ...
- لن يتغير شيئ إذن ... هل تعطيني بنطالك ..مشيرة إليه سآخذه معي وأشتري لك على نفس مقاسه ... حللنا المشكلة هه (تقبله على خده) .. لا تفكر بالأمر ..؟
- نعم بالفعل .. لا لن افكر بالأمر .. خذي معك بعض المال ..
- لا لا عليك ساضيفه لفاتورة الفندق (وهي تغمز بعينها)

لم تستغرق سهير في رحلة الشراء تلك سوى بعض الوقت الذي أمضاه أحمد في التفكير بما جرى ويجري من أمور ومن مستجدات تطرأ على حياته فيما هو قابع في مخيلته وذاكرته ... نسي لفترة طويلة من الزمن كيف أنه لم يعد ينتقي ملابسه بنفسه وبأنها كانت تدير حياته بجميع أحرف الهجاء التي تعلمها تذكر الكثير من تلك المواقف الصامتة في ذاكرته وماتبعها من أمور وكأنه غادر المكان والزمن إلى عالم آخر يشخصه ماثلاً أمامه بحلوه ومره بأحزانه وشقائه وكل ما طغى عليه من ذكريات ... وما أنقذه مما هو به سوى طرقات خفيفة على باب غرفته ... وكانت سهير كما توقع وبيدها ما إبتاعته من المحال التجارية القابعة على يمين بهو الفندق
- أهـ ما رايك بذوقي... بنطال وقميص .. ارجو أن يعجبك إختياري
- بالتأكيد الجينز يناسب كل شيء .. شكراً سهير
- نعم ... شكراً سهير ..حاف .. (بدلع)
- لا مع قبلة

ما ان ارتدى احمد ثيابه حتى اسرعا في الإنطلاق إلى شارع الهرم مجتازين الكوبري الذي رآه ليلة الأمس في تجوالهما... وبدأ الهرم الأكبر يبدو من بعيد وهو يعتلي رويداً الرمال في منظر ساحر لكن الزحام والسرعة التي يجتاز بها السائقين بعضهم البعض كانت بالفعل عاملاً من عوامل بث الرعب والخوف في صدور السائحين أمثاله ... لكنه سرعان ما نسي الأمر عندما أصبح وجهاً لوجه أمام عجيبة الدنيا الأولى بلا منازع الإهرامات التي تقبع على أرض الجيزة والتي تتكون من العديد من الإهرامات لكن اشهرها على الإطلاق هرم خوفو وهو الأكبر وبجانبه إلى اليمين أبو الهول الذي جذع أنفه كما يقال ضربة مدفع من مدافع نابليون عندما غزا مصر في القرن التاسع عشر ميلادياً.
من المثير للدهشة أن يكون أحدنا قرب هذا الصرح الهائل المليئ بالأسرار فالهرم الأكبر هو معجزة بنائية لا يُعرف على وجه الحقيقة كيف تم بناؤه والعديد من الإفتراضات كلها لا زالت لا تعطي دلائل على عملية البناء وكيفيتها وحتى على من بناها وإن كانت وزارة السياحة تصر في كتيباتها ومنشوراتها الدالة على آثار مصر العريقة أن الهرم وبناة الهرم هم من الفراعنة ... قرأت الكثير من المقالات عن هذا الصرح الجميل والمناقشات العديدة والإفتراضات الكثيرة التي لا زالت دونما إثبات حتى يوم زيارتي لأرضه فمنهم من يقول أن السحرة هم البناة الحقيقيون ومنهم من يدعي أن بناة الهرم من سكان الكواكب الأخرى لكن التصريح الرسمي يؤكد بأن بناة الهرم هم من سكان مصر القديمة وأن خمس وعشرين ألفاً من المواطنين ليس منهم عبداً واحداً هم من بنى الهرم، تساءلت طويلاً وأنا أتابع خطواتي عبر الرمال بجانب هذا المربع الضخم التي تتساوى أضلعه ويبلغ طول ضلعه الواحد حوالي مائتان وثلاثون متراً وبزاوية قائمة صحيحة لا مجال للشك بها على الإطلاق، هل من المعقول أن يبني أحد ما هكذا بناء دون أن يدون كيفية بنائه له؟ نحن نعلم أن من يسكنه هو خوفو ولكن من بناه؟ لماذا لم يدونوا هذه الأمور ؟ هناك العديد من الأسرار تحيط بهذه العجيبة المتبقية على قيد الحياة وكأنها صرخة قادمة من الماضي ستظل تجلجل آفاق علماؤنا الحالين والمستقبلين لتقول لهم مازلتم عاجزين عن كشف أغوار العلوم التي وصلنا لها.... فهل من مجيب لصدى التساؤلات القادمة من الماضي؟

- مابك؟
- لا ... لست مقتنعاً بما يقال عن إهرامات الجيزة هذه
- وما يقال عنها؟
- أن بناتها هم المصريون القدماء وهذه الحكاية التي لا أستطيع تصديقها
- (ضاحكة) أحمد هل تتكلم بجد؟
- نعم ... لما؟ هل تصدقين أنت هذه الحكاية؟
- بالتأكيد ... (بعد قليل من التفكير) إذن من برأيك قد بناها
- لا ... أنا لا أعلم لكن هناك العديد من التساؤلات تدور في ذهني ...هي ليست وليدة اليوم لا قديمة لكنها اليوم إزدادت إصراراً
- نعم وما هي التساؤلات؟
- لأقل لك أمراً ... ماذا تعلمين عن المصريين القدماء؟
- ما درسناه في المدارس وما نقرأه هنا وهناك يعني والعديد من الإكتشافات مازالت في طور البحث والتمحيص لكنها تؤكد بأن قدماء المصريين هم من بنوها أو على الأقل ... أحمد يعني من سكن هذه البلاد سابقاً بالتأكيد هو من بناها ألست معي بهذا؟
- بالتأكيد لكن سؤالي يدور حول العلم ... العلم التطبيقي .. أعني أن العلم لا يختفي بل يتطور أليس كذلك؟
- ماذا تقصد بهذا ؟
- أقصد أن أية علوم لا تأتي إلآ من خلال تجارب ووقائع تدون أو على الأقل تتناقل من جيل لآخر وهي علوم مخبرية لأن من بنى هذا الهرم ... أنظري إليه ...بالتأكيد وصل إليه علم ما عن طريق إما من عوالم أخرى أو نتيجة إختبارات سابقة .. هل فهمت ما أعني ... لسبب أنا أقول هذه الكلمات لأن العلماء حتى يومنا الحالي لا يعلمون كيف على وجه الدقة تم بناء هذه الإهرامات وخاصة أن علومهم الحالية عاجزة عن إكتشاف هذا الأمر... فلو كان الأمر علم سابق لتطور مع أجيال العلماء والمهندسين السابقين ولوصل إلى ذروته في زمن ما، لكن مما نرى يبدو أن من بناه قد إختفى أو تلاشى علمه فجأة دونما إنذار... وكأنما حدث أمر جلل ... أو توفى الجميع فجأة
- طيب ماذا تظن ؟ أحمد أنا لست خبيرة بهذا الأمر
- نعم وأنا أيضاً لست خبيراً لكن عقلي لا يتحمل فكرة أن يبني قوم ما صرح كهذا ونرى بيوتهم طينية وقصورهم طينية وفقط المعابد هي التي شيدت بعظمة لا تضاهيها أي عظمة حتى يومنا الحالي
- آهـ .. فهمت ما تعني ولكن ما أدراك بأن قصورهم طينية والبيوت ايضاً
- إذن أين هي ؟  لأقل لك أمراً ... من أعظم فرعون مصري؟
- أعتقد إنه رمسيس الثاني مش كده؟
- نعم لقد دون حروبه كلها أتعلمين لماذا؟ بالتأكيد لأنه خاضها والتاريخ يؤكد على ذلك المكان والزمان كله مدون .. وهذا فخر له ... ومن بنى هذا العجيبة لم يدون من هو ولم يدون من بناه ولم يرسم كيفية بناؤه ... طيب اين القصور الملكية ... أنظري إلى أي بلد بالعالم أو اية حضارة سترين أن القصور والمعابد هي أهم شيء سيعثر عليه ... لكن لا قصور هنا في مصر الفرعونية.. السبب أنها من الطابوق
- لا اعلم أحمد .. لكن العلماء ... علماء الآثار من كل البلاد يؤكدون أن البناة هم المصريون القدماء أي الفراعنة
- نعم هذه هي المشكلة ... إذ لا دليل لديهم عن البنائيين الأصليين لذا ترينهم يفترضون هذا الأمر .. لكني أظن بأنهم ليسوا على قناعة تامة بهذا الأمر حسبما قرأت في مقالات عديدة .. ليتنا جئنا بكاميرا ... كم وددت لو أنني دونت وصولي لهذا المكان العابق بسحر الماضي ..
- غدأ إذا أردت أو متى ما أردت نستطيع العودة ..(ضاحكة) لن يستطيع أحد سرقة الإهرامات فهي ليست مسلة كما تعلم
- أحسنت بهذا نعم ليست مسلة أو لقى ... سهير (بعد التفكير) سهير هل الأقصر بها لقى كثيرة اقصد آثار و...
- بالتأكيد أكثر من هنا ... لأقل لك أمر الأقصر هي مدينة طيبة وهي كانت العاصمة للعديد من الملوك وتضم آلآف المقابر و.. لماذا تسأل أحمد
- لا خطر على بالي أمر ... ساقول لك ما هو عندما أتأكد منه ... لنعود ارجوك ... لنعد إلى الفندق

4 comments:

  1. كلّ له عوالمه المخفية
    هل تحملنا ايامنا الحاضرة والقادمة الي الماضي الذي يقبع في ذاكرتنا .فهل الحالي يحمل مفاتيح الماضي ام سيظل هذا الاخير كوزر وحمولة وملاذ وسرّ تكمن فيه حقيقتنا التي غادرناها دون ان نكشف اغوارها ,فنجد انفسنا عائدين اليها قسرا وطوعا .ففيه تكمن مفاتيح شخصيتنا الحقيقية وفيه تختفي اسرارنا التي لم يتسنى لنا فضها كليا فألقت بضلالها علي الحاضر والمستقبل ايضا . يبدو ان الانسان يعيش في الحاضر بماضي يقتات منه ولا يعتقه نهائيا نريد ان نغادره فلا يغادرنا بل يعشش فينا . هذه الحالة قد تنطبق علي الانسان كما علي حضارة بأكملها أوليس الانسان هو بان للحضارة في نهاية المطاف .
    هذه الوضعية تشترك فيها شخوص القصة كلّها :
    -سهير :" حسبتك لاتريد ان تكلمني لما حصل ليلة الامس " .هذا الماضي القريب حوّل سهيرالي كتلة من الجمر تستعر, تشعر بأنها فقدتها مذ ما تعرضت له اول مرّة .هذا الماضي الذي أرقها وعذبها وحولّها عن المسار الاصلى الذي كانت تريده لنفسها .فاستمع اليها وهي تصف نفسها في عيون الاخرين :"..شعرت بوضاعتي...وتخيلت لو انني كنت سهير التي عرفتها قبل اول امس لربما احترمتها ..." وهذا يحيلنا الي مسألة جدّ هامة وهي : هل أن المجتمع يشجع علي الاقنعة وسلب الشخص شخصيته الاصلية والظهور بما يرتضيه دون اتاحة للمرىء ان يحقق ما هو يريد او يرتضيه لنفسه .فهل المجتمع هو الذي يحدد لنا الدور والمهام مع الغاء الارادة الذاتية .؟؟
    هذا المجتمع الذي يفرض علي اعضائه منظومة اخلاقية وقيمية ونمط حياة قد لاتكون لاحد اعضائه الرغبة في التقيد بها . نفس هذا المجتمع والذي قد يدفعك في كثير من الاحيان الي خوض تجارب لاترتضيها يغلق دونك باب الرجعة او تصحيح المسار الذي تعتقد انك حدت عنه . فاستمع اليها وهي تتلقى راي أحمد فيها :"..حسنا ومن انا حتى احاسبك ....ستظلين سهير الرقيقة والحنونة....." وكلمة "احاسبك" التي استعملها الكاتب في محلها هي تعكس طريقة تعامل المجتمع الذي قد يتخلي عن دوره الاساسي تجاه احد اعضائه لكن في المقابل يعطى لنفسه الحقّ بالمحاسبة .هذه الازدواجية والتي تعكس حالة من الانفصام الشخصية التي تعاني منها للاسف مجتمعاتنا العربية .والتي قد تفرض علي امرىء أخطىء في حق نفسه قبل مجتمعه الي مدمن اخطاء باعتبار غياب عقيدة الصفح والغفران وبالتالي وكانهم يحكمون عليه احكاما مؤبدا بأن يواصل طريق الخطىء .فمن اين اتى بكلّ هذه القسوة واية تشوهات نفسية يعيشها واية خيانة لقيمه الدينية التي تغفر الخطيئة وليس الخطأ. فهل نحن مجتمعات معقدة بمفهوم الفضيلة ولكن نسرع في تقزيمها وتدنيسها لاعتناقنا عقيدة "لا للغفران والصفح ".مع ان هذا السلوك الاجتماعي هو كاف لاعطاء الانسان ثقة في نفسه وفي مجتمعه وبانه مهما كان حجم خطئه فان مجتمعه سيحضنه وسيحيى فيه قيمه النبيلة

    ReplyDelete
  2. ويحوله الي عنصر صالح عوض نبذه ولفظه فيكرر الاخطاء نفسها بما ان مجتمعه لم يعد يراه الا من خلال تلك العين التي تدينه وتتهمه دوما فلا تعطي فرصة للتجاوز بل تجعل من خطئه ورقة ابتزاز له :"...حسبتك لو انني شاركتك بما سأناله من العقود راضيا عنّي لكن داخليا اتمزق...." هذه الصورة المركبة والمعبرة والتي ينقلها الكاتب تعكس اية مرارة وتمزق داخلي بين ما نريد ان نكون وبين ما يريده لنا الاخرون ان نكونه. فرضاء المجتمع واحمد هو احد اعضاء هذا المجتمع والذي بحسب سهير تعودت ان ترضي هذا المجتمع لكن علي حسابها الشخصي وعلي حساب كينونتها بل في بعض الاحايين قد تصل الي الدوس علي ذاتها من اجل ارضاء هذا المجتمع ومسايرته والذي دفعها الي اعتناق سلوكات تأباها نفسها الي حدّ حالة التمزق الداخلي وهذا ما يضاعف من ألمها وغربتها معا .فانظر اليها وهي تستبشر برأي احمد فيها والذي مثل لها المجتمع التي تأمل العيش فيه ومعه :"..هل صحيح ما تقول ام تجاملني .." "انا لااجاملك ..".اذا هي تعودت علي مجتمع يجامل وقد يبلغ درجة النفاق في تعاملاته لذلك نراها تتمسك بأحمد وتسرع اليه ليس من اجل متعة او صفقات لاأبدا انما كمجتمع بديل ,يغفر ويحتوى ويصادق ومتيح للذوات ان تكشف عن وجهها الحقيقي دون لفظه بل قبوله كما هو وكما يريد .هذا ما يفسر تمسك وتشبث سهير بل والتخلي عن عملها حين تواجده .انه تعويض لمجتمع تفتقده وربما تطمح ان يكون يوما ما واقعا قائما. كلام سهير يعكس ليس فقط تلوث عالم رجال الاعمال والمال وانما ايضا مرارة اجتماعية التي تجلد الانسان فتدفعه امّا للتقنع والتجمل واما الفظ والطرد من حضيرة المجتمع مما جعل سهير تئن تحت حمل الماضي .وهذا الوضع ينسحب علي احمد .كيف ؟
    -أحمد ::" بصراحة لم اشترى لنفسي منذ وقت طويل ...بل هي من تشترى لي .."...."...فيما هو قابع في ذكرياته ومخيلته...منذ زمن وهي تدير حياته بجميع احرف الهجاء......وكأنه غادر الزمن والمكان الي عالم آخر يشخصه ماثلا امامه...." هذا التصوير لحالة احمد ومن خلال بعض الكلمات نجد انه ايضا يعيش تحت وطئة ماضي يقبع في ذاكرته فيرتد اليه ليسائله وليقف علي ذاته وكأنه يبسط لنا هو الاخر نوع من الاستيلاب الاجتماعي الذي تعرض له من خلال التخلي طوعا وربما قسرا علي حريته حتي البسيطة منها وهو اختيار ما يناسبه ليتعمق في المعني اكثر عبر التوسع لتشمل كامل الحياة :"منذ زمن وهي تدير حياته .." وهنا نقف علي غياب الارادة الخاصلة والتسليم الطوعى للشريك ان يدير حياتنا وان نسلم له دفة القيادة وهذا من باب الارضاء ايضا والمسايرة .وكأن الكاتب يلمح الي ان استمرارية اية شراكة بين اثنين ومهما كان نوعها هو بتنازل احد الطرف علي صلاحياته وربما حتي تقييد حريته للاخر حتي تمضي السفينة في امان .فهل نعتبر هذا نوع من التذمر عبر عملية التقييد والتضييق لدرجة الاستنزاف ام انها ضريبة الحبّ والرغبة في المحافظة علي من نحبّ تجعلنا نرضى بذلك حتي لو تجاوزت المعقول.

    ReplyDelete
  3. وكأن أحمد يتساءل : هل جبل الانسان علي التنازل والارتضاء بالقيد والتفويت في حريته من اجل ارضاء الاخرين ؟ وهل بالضرورة ان السعادة او لنقل تحقيق سعادة الاخرين تتم عبر استنزاف بل ربما نوع من حالة الاستعباد ؟ لماذا يطلب منّا المجتمع بالتنازل والعيش ضمن منظومة نفتقد فيها تدريجيا ذواتنا ونتحول الي كائنات تعمل جاهدا علي ارضاء الاخرين ؟ وهل اذا ما اردنا ان نسترد حريتنا ونعلن عن اختياراتنا والتي قد لا تتوافق مع الاخرين تفشل وتبتر علاقاتنا ؟ وهل الانسان متى تنازل مرة طوعا عن حقوقه يستمرىء الاخرون هذا الوضع ومتي تمردت او اعلنت الخروج عن بيت الطاعة الاجتماعية يتم اتهامك بالعقوق والخيانة وغيرها من الاوصاف ؟ فلماذا هذه الانانية المفرطة والتي تفرض علينا العيش بأقنعة لانرتضيها ابدا وتجعلنا غرباء حتي علي انفسنا ؟
    هذه الاسئلة وغيرها تكشف اي حيرة يعيشها الانسان لدرجة انه لم يعد يعى اي الاتجاه يتبع وايها السبيل القويم .هذه الحركة الارتدادية للماضي تحيلنا الي نوع من المواجهة والمجابهة مع الذات :من نحن وماذا نريد وهل ما كنّاه هو حقيقتنا ام ظلها ؟ هذه الدوامة من التمزق بين ما نريد ان نكون وما يفرضه علينا الاخرون ان نكونه جعلنا في حالة استغراب وتعجب : هل لازالت هناك اسرار لم نستطع فضها او فهمها وجعلت منّا اسرى للماضي ؟فكيف نواجه الحاضر والمستقبل وبعض الغاز الماضى لم تفكّ شيفراتها بعد ؟
    هذه الاستعارة والتقابل حولها الكاتب من الذات الواحدة الي حضارة بأكملها .وكأنه يقول لو ابقينا علي جهل انفسنا ستكون حالنا كهذه الحضارة التي تعيش اثارها بيننا ولكن لم تفك تمائمها والغازها بعد .اذا هو هنا يري ان الماضي الحضارى مازال راسخا بكلكله في الحاضر.
    -الحضارة الفرعونية : يعتبر احمد ان الحضارة ما هي الاّ نتاج تفاعل دوات عدة تركت منجزاتها التي تخلد ذكراها ولكنه يعترض علي امر هام وهو التالي :لما يرتضي الانسان معرفة الوهم بمعني لما يقوم بتجيير الماضي لصالح مصالحه الحالية ؟أليس في ذلك ظلم للاجداد بناة الحضارة الحقيقيين فلما نكرانهم ولما الباس منجزاتها اقنعة وجعلها حقيقة وتسويقها للعالم بغرض اقتصادى وسياحي فلما هذا التجنى والظلم ؟
    فهو يتجول بين الكنوز الاثارية وخاصة البناءات الشاهقة كالاهرامات والتي تعكس عبقرية فنية ومعمارية يندهش احمد للتاريخ المزيف الذي البسوه لهذه الحضارة . واستنتاجه لا ينطق عن الهوى بل يستند الي حقائق علمية وشواهد اثرية .ويطرح تساؤلات جد مهمة :"هل يمكن ان تكون هذه البناءات تتناسب مع طول الاشخاص الذي نسبت اليهم هذه الحضارة العملاقة ؟" ونراه يقف علي طول الضلع الواحد وهو مئتان وثلاثون مترا وهذا يدعوه للتساؤل ان القوم الذي بنى هذه العمارة وبالنظر لغياب تقنيات آلية هامة تمكنه من ذلك تجعل يتساؤل عن حجم وطول الاقوام الحقيقيين الذين والاكيد بنوا ذلك وفقا لحقيقتهم

    ReplyDelete
  4. الفيزيائية في حين ان بقية القبور والمبانى الاخرى كانت طينية و ذات حجم صغير .وهذا يعنى ان احمد يشكك في الرواية التي روجت منذ سنين حول ان الفراعنة هم من بنوا هذه البناءات الشاهقة .ويستند في ذلك الي تحليل علمى معمق والي الشواهد الماثلة باعتبار غياب القصور والتي تكون عادة وكما كل الحظارات السابقة محور البناءات صحبة المعابد .وهنا جاء استغرابه فان كانوا هؤلاء الاشخاص هم نفسهم من شيدّ هذه المعابد لما لم يشيدوا ايضا القصور والتي هي رمز للهيبة السياسية علي نفس الطراز .وما اشار له الكاتب جد هام باعتبار ان كلّ الحضارات بمختلف اطوارها واشكالها تعتمد في البناءات دائما علي ركيزتين : العمارة الدينية وهي المعابد والعمارة السياسية وهي القصور وكلي العمارتين نواة الحياة الاساسية لذلك تلقي نفس الاهتمام والدرجة من حيث التدشين والتزويق والصلابة والقوة والتي تعكس المنعة والهيبة السياسية والعسكرية والقوة الاقتصادية .ومن خلال هذا وقف الكاتب متسائلا :هل يعقل ان يغفل بناة المعابد علي بناء القصور؟
    كما يستند الكاتب الي عملية التأريخ والتدوين والتي تخلد ذكرى اي منجز حضارى وصاحبه ولذا يتساءل الكاتب علي ماذا استند الرواة والمؤرخين علي نسب هذه الانجازات للفراعنة في ظل غياب ادلة تدوينية توضح ذلك .
    كما ان الكاتب لايشكك فقط في الرواية المروجة مصريا وانما ايضا في تخاذل او انسياق الاثريين الاجانب وارتياحهم الي هذا التفسير مع انه من وجهة نظر علمية غير متطابق .
    فالكاتب اذا يجعل من حالة التقنع التي اصبح يرتاح عندها ومن خلالها الانسان حالة متأصلة فاذا كنّا عاجزين عن كشف حقيقة عمرها الاف السنيين ونرتضي مسايرة اسطورة تمّ نسجها والارتكان لصحتها فلا تثريب اذا علي سهير او غيرها ان اضطر للتقنع اجتماعيا وهي مازالت تتفاعل في الحياة وربما لها عذرها ما دمنا نخفي حقائق طواها الماضي ولم يطوها تماما ....وكأن الكاتب يريد التصريح :" لما ان اردنا ان نكشف عن دواتنا ونتحرك بلا قيود لبلوغ الحقيقة يتم لجمنا وفرض القناع علينا ...ثم نتهم ونصلب ان حطمنا هذه القيود ...فهل الحياة مسرحية لكل منّا دوره وقناعه ؟؟.....
    رحلة ممتعة في سراديب الماضي الآسر لانه يخفي اسراره معه ولانه يفرض قيوده علينا في الحاضر ...فمتى عرينا حقيقة ماضينا عرفنا شخصيتنا وكينونتنا وتيسر لنا احتواء حاضرنا والانطلاق للمستقبل متخففين من اي قيد ......شكرا حكيم علي الابداع وعمق الطرح ...

    ReplyDelete